تكثر التوقعات المتشائمة ليوم 16 أيار وما بعده، ومعظمها يتناول الأزمة الاقتصادية المالية والأزمة السياسية التي حالت دون اتخاذ القرارات اللازمة لمعالجتها، وينتظر أن تحول دونها مجدداً، بعد فرز صناديق الاقتراع، بحيث أنه ما كان يبدو بداية طريق الخلاص بتجديد التفويض لـ128 نائباً جديداً من أجل إرساء نهج جديد في التعاطي مع معاناة اللبنانيين من أبشع انهيار شهدوه في تاريخهم، سيكون محطة جديدة على طريق تفاقم هذه المعاناة، لا أكثر.
أكثر المتشائمين مما ينتظرنا بعد هذه الانتخابات هم الخبراء الاقتصاديون الذين يغلب عليهم الشك بإمكان إنتاج طبقة سياسية جديدة، راهن عليها الداخل والخارج، من أجل خلق قاعدة لوقف التدهور المضطرد في الأوضاع المعيشية.
التسلسل المنطقي للأحداث عند بعض هؤلاء يشير إلى أن الإجراءات المالية والاقتصادية الموجعة والقاسية التي كانت مطلوبة قبل الانتخابات، بل منذ سنتين، جرى تأجيلها تحت ستار رفض تحميل الطبقات الفقيرة والمحتاجة عبء التصحيح المالي بزيادة الضرائب وخفض كلفة القطاع العام، ووقف الدعم للسلع الرئيسة التي تمس الأمن الغذائي والاعتراض على قانونٍ للكابيتال كونترول يحدد سقفاً للسحوبات من الودائع… لأن الانتخابات قادمة وستزيد النقمة على النواب المرشحين الذين يوافقون على تمريرها. فهذه وردت إما في مشروع الموازنة أو في مسودة خطة الحكومة السابقة والحالية للتعافي، وارتئي تأخير إقرارها في البرلمان إلى ما بعد الانتخابات. هذا كان اتفاقاً ضمنياً بين معظم الكتل النيابية ما عدا القليل منها. لكن مرحلة ما بعد الانتخابات لا تضمن تذليل الخلافات التي كانت قائمة قبلها والتي يمكن أن تسهل بداية ولو متعثرة للخطوات الإصلاحية المطلوبة. يعود التشاؤم إلى الخلاف السياسي. فالمخاوف من تصاعده عائد إلى أنه سيحول دون تشكيل حكومة جديدة، ويغرق البلد مرة أخرى في دوامة متكررة من الفراغ الحكومي. ولولا أن هذا الاحتمال هو الراجح ما كان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يكرر «التمني» بأن تتشكل الحكومة المقبلة في سرعة، وكذلك سفراء الدول الكبرى والأمانة العامة للأمم المتحدة في تقاريرها إلى مجلس الأمن عن الوضع في لبنان. وهذا السيناريو يجري الحديث عنه منذ أن تقرر موعد الانتخابات، ليشمل أيضاً تعطيل انتخابات الرئاسة فينتقل البلد إلى حالة أكثر حراجة وخطورة: أن يمتنع الرئيس ميشال عون عن مغادرة القصر الرئاسي بحجة عدم تسليم البلد إلى الفراغين الرئاسي والحكومي، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. من الطبيعي أن ينسب المتخوفون من هذا السيناريو إمكان حصوله إلى تعطيل «حزب الله» أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي بحجة رفض الإملاءات الأميركية كما فعل حتى الآن، وأن يتسلح بشعارات يعتبرها تفوق أهمية، تتعلق بمواجهة تهديد إسرائيل للثروة النفطية والغازية في عرض البحر، وهو مهد لذلك في خطابيه الأخيرين، متستراً بتأخير التفاوض على رسم الحدود البحرية الذي يلعب الدور الرئيس فيه من الخلف. لكن لهذه الحجة وتلك الشعارات أغراض أخرى هي إبقاء البلد رهينة الاتفاق الأميركي الإيراني المتعثر عند نقطة رفع الحرس الثوري عن لائحة الإرهاب والعقوبات، وربط لبنان بأوراق الضغط الإيرانية في المنطقة، من ضمن رهان طهران على لعبة كسب الوقت في انتظار الانتخابات الأميركية النصفية التي يراهن وغيره على أن تضعف إدارة الرئيس جو بايدن. ولا حراجة لدى الحزب في تأخير انطلاقة التعافي الاقتصادي، وإغراق البلد في مزيد من التعاسة، قياساً إلى أهدافه الكبرى التي تتجاوز لبنان.
وسواء صحت هذه المخاوف أم لم تصح، لأنه من المبكر الحديث عن توقعات كهذه، فإن صورة البرلمان المقبل، وفق معظم التقديرات، ستحول دون أي حسم لأي قرار أو استحقاق أو خطة تعافٍ. فخريطة البرلمان الجديد ستحمل في طياتها بذور الخلافات السياسية حول القضايا الرئيسة. وحتى لو حصل الفريق الذي يقوده «حزب الله» على الأكثرية، فإنها ستكون على صوت أو صوتين لا أكثر، لكنها أكثرية هجينة وضعيفة، ستسقط عند أول استحقاق هو انتخاب رئيس البرلمان حيث سيرفض حليفه الرئيسي التصويت للرئيس نبيه بري. والأرجح أنهم سيختلفون على تسمية رئيس الحكومة المقبل، ثم على تشكيل الحكومة العتيدة، وصولاً إلى رئاسة الجمهورية. وإذا حصل «السياديون» و»التغييريون» على الأكثرية بصوت أو صوتين، فإن الفروقات بين كتلهم ومجموعاتهم لا تحصى وستظهر في انتخابات رئاسة البرلمان أيضاً وتنسحب على عناوين كثيرة أخرى وصولاً إلى الرئاسة الأولى. قد يكسب الحزب وحلفاؤه في الحالتين أنهم تمكنوا من أن يعاكسوا الضغوط الدولية والعربية والمحلية بالاحتفاظ بالحد الأدنى من القوة البرلمانية القادرة سواء على التعطيل، أو على الترجيح… في الاستحقاقات المقبلة، بحيث سيكون ذلك جزءاً من حسابات القوى الخارجية المقررة في البلد. لكن ماذا لو جاءت النتيجة داحضة لحصول أي من الفريقين العريضين، «حزب الله» مع حلفائه من جهة، وتحالف حزب «القوات اللبنانية» مع «الحزب التقدمي الاشتراكي» والنواب السنة الذين ملأوا الفراغ الناجم عن عزوف «المستقبل»، على الأكثرية، وحصلت مفاجآت أدت إلى نشوء كتلة تشكل بيضة القبان تجمع نواباً سابقين مستقلين لهم أوزانهم الانتخابية الأكيدة، متحالفين مع التغييريين، الذين قد ينجح بعضهم في تحقيق اختراقات ولو ضئيلة؟
في اختصار، وفي أحسن الأحوال، سيكون صعباً أن يحتضن البرلمان المقبل أكثرية متجانسة تسهل اتخاذ القرارات. وهذا سبب كاف للتشاؤم حول مصير الأزمة المالية الاقتصادية.