طوت الجزائر صفحة عبد العزيز بوتفليقة، بما له وما عليه وذلك بعد إعلانه انّه لم يعد مرشّحا للانتخابات المقبلة التي تنتظر من يحدّد موعدها. ما الذي تحمله مرحلة ما بعد بوتفليقة بعدما تبيّن انّه يستحيل اجبار الجزائريين على القبول ببوتفليقة رئيسا ولو لسنة واحدة، اللهمّ الّا اذا كان مطلوبا التمهيد لثورة شعبية، ليس معروفا من سيتستغلّها، تتخلّلها مرحلة جديدة من عدم الاستقرار شبيهة بتلك التي سادت بين العامين 1988 و 1998. سمّيت تلك المرحلة «سنوات الجمر» او «سنوات الرماد».
المشكلة، كما يراها الجزائريون، هي مشكلة الجزائر في نهاية المطاف. الأكيد انّها ليست مشكلة المحيطين ببوتفليقة الذين يحاولون إيجاد من يضمن عدم ملاحقتهم قانونيا لدى خروجهم من قصر الرئاسة. لا ينسى هؤلاء ان بوتفليقة نفسه تعرض لملاحقة قانونية بعد وفاة هواري بومدين وخسارته السباق على الرئاسة لمصلحة الشاذلي بن جديد. وجد خصوم الرئيس الجزائري الحالي أسبابا لملاحقته في قضية اختلاسات في وزارة الخارجية التي كان مسؤولا عنها بين 1965 و 1978. قد يكون ذلك صحيحا، كما قد لا يكون كذلك. لكنّ بوتفليقة اضطر وقتذاك الى العيش منفيا خارج الجزائر وامضى فترة طويلة في دولة الامارات برعاية الشيخ زايد، رحمه الله، وضيافته.
هل من امل بجزائر افضل، بعد انتهاء عهد بوتفليقة، ام سيسعى النظام الى تكرار نفسه عبر البحث عن مسكنات بدل محاولة بناء مؤسسات لدولة حديثة تهتمّ حقيقة بمشاكل الجزائر والجزائريين. المسألة ليست مسألة تغيير رئيس بمقدار ما انّها مسألة تغيير ذهنية نظام في حال هروب مستمرّة الى خارج الجزائر بحثا عن غطاء لممارساته في الداخل.
قبل كلّ شيء، كان اختيار العسكر لعبد العزيز بوتفليقة في العام 1998، تمهيدا لانتخابه رئيسا في 1999 بمثابة بحث عن مسكنات. لا شكّ ان كبار الضباط، في مقدمهم محمد مدين (توفيق) والعربي بلخير، الذي كان متقاعدا، وغيرهما اتفقوا في العام 1998 على إعادة بوتفليقة الى الواجهة بعدما عرضوا كلّ الأسماء الأخرى التي كان يمكن ان تتولّى موقع رئيس الجمهورية.
وجد هؤلاء ان بوتفليقة هو الأنسب نظرا الى انّه يمتلك خبرة طويلة في السياسة من جهة ولديه، من جهة أخرى، شرعيّة مستمدة من كونه لعب دورا في الكفاح المسلّح في مرحلة ما قبل الاستقلال.
بعد عشر سنوات من الحروب التي خاضها الجيش من اجل القضاء على الإرهاب، صارت هناك حاجة الى سياسي محنّك يشكل غطاء لمصالحة وطنية. نجح عبد العزيز بوتفليقة في مهمّته نجاحا كبيرا. ساعدته المؤسسة العسكرية التي وضعت في أولوياتها «حماية الجمهورية» ومنع استيلاء الإسلاميين على السلطة. لم يمنع ذلك رئيس الجمهورية الجديد من تصفية حسابات قديمة مع المؤسسة العسكرية التي حالت دون وصوله الى الرئاسة مطلع العام 1979 خلفا لهواري بومدين. بدأ بالتخلص من محمد العماري ثم من «توفيق» الذي كان يصعب حتّى التفكير بانّ الإمكان المسّ به. كان الجنرال محمد مدين، أي «توفيق» الرجل القويّ في البلد. كان رجلا غامضا يكره الأضواء، لا صورة له باستثناء صورة واحدة ظهر فيها مع ضباط آخرين. كانت لديه كلّ الملفّات التي يستطيع فتحها متى يشاء وابتزاز أصحابها من مدنيين وعسكريين آخرين.
كان التخلّص من العماري ثم من «توفيق» في العام 2015 نقطة تحوّل جعلت المحيطين ببوتفليقة يسمحون لنفسهم بعمل ما يشاؤون، بما في ذلك إعادة الاعتبار الى شخص مثل شكيب خليل وجهت اليه اتهامات باختلاس مبالغ كبيرة عندما كان وزيرا للنفط ومسؤولا عن شركة «سوناطراك» التي تسوق النفط والغاز الجزائريين. بقدرة قادر لم يعد شكيب خليل متهما، بل عاد الى لعب دور على الصعيدين الداخلي والخارجي مستفيدا من العلاقات الطيبة التي ربطته بالادارات الاميركية.
عمل عبد العزيز بوتفليقة الكثير للجزائر، لكنّه لم ينجح في تغيير ما يجب تغييره، أي جعل النظام في الجزائر يهتمّ بالجزائريين بدل التلهي بمعارك خارجية من اجل اثبات ان للجزائر دورا إقليميا وانّها القوّة المهيمنة في منطقة شمال افريقيا. يقي بوتفليقة اسير العقد الجزائرية التي تعني اول ما تعني العجز عن تطوير اقتصاد البلد والحياة السياسية فيه. اعتقد ان في استطاعته شراء السلم الاجتماعي عن طريق رشوة أبناء الشعب باموال النفط والغاز. مثله مثل النظام الايراني، لم يستطع استغلال الجزائر وثرواتها. بقي الاقتصاد الجزائري يعتمد على دخل النفط والغاز بدل ان يكون اقتصادا متنوعا. لم يستطع تغيير نظام التعليم الذي ينتج اشباه اميين ومتطرفين اسلاميين، كما لم يستطع تطوير الزراعة او السياحة.
لعلّ العقدة الاهمّ التي عانى منها بوتفليقة والمحيطون به هي عقدة المغرب التي حالت دون إعادة فتح الحدود البرّية بين البلدين، وهي حدود مغلقة منذ العام 1994، نعم منذ ربع قرن!
لم تستطع الجزائر في عهد بوتفليقة الاستجابة الى أي مبادرة مغربية في شأن تطبيع العلاقات بين البلدين تمهيدا للتعاون في مجالات كثيرة. بقي بوتفليقة، ثمّ الذين حوله، يمارسون سياسة الابتزاز في حقّ المغرب والتي اعتمدت على أداة اسمها جبهة «بوليساريو». بكلام أوضح، لم يتمكن بوتفليقة في أي وقت تجاهل انّه من مواليد مدينة وجدة المغربية وانّ عليه المزايدة على الآخرين كي لا يقال انّه وفيّ، في الحدّ الأدنى من الوفاء، للأرض التي احتضنته حتّى بلغ السابعة عشرة من العمر.
لم يعد الكلام عن بوتفليقة يجدي. ماذا بعد بوتفليقة؟ هذا هو السؤال الكبير. يشمل هذا السؤال في طبيعة الحال الدور الذي يمكن ان تلعبه المؤسسة العسكرية التي اعتادت تحديد من هو الرئيس الجزائري.
مارست المؤسسة العسكرية دورها في اختيار خليفة بوتفليقة ام لم تمارسه، ليست تلك المسألة. المسألة هل يحصل تغيير في ذهنية المتحكمين بالجزائر في هذه المرحلة. ما تبدو الجزائر في حاجة اليه اكثر من أي وقت هو تفادي انفجار شعبي كبير. لا يثير مثل هذا الانفجار قلقا على الجزائر وحدها وانّما على دول الجوار أيضا، بما في ذلك المغرب، الذي يهمّه الاستقرار في الجزائر الى ابعد حدود. فالاستقرار في الجزائر يساعد في إبقاء الوضع الإقليمي مضبوطا في مرحلة ليس معروفا ما الذي ستؤول اليه الاوضاع في ليبيا، إضافة الى ان تونس تبدو مقبلة على تطورات مقلقة.
انتهى عهد بوتفليقة. من الصعب تصوّر انتخابه رئيسا مرّة أخرى، الّا اذا كان افراد الحلقة المحيطة به يعتقدون ان في الإمكان احياء الأموات. ما تبدو الجزائر في حاجة اليه يتجاوز مصير رجل محدّد قدّم الكثير لبلده وعجز عن التخلّص من العقد الشخصية التي تحكّمت به.
ما تبدو الجزائر في حاجة اليه يتمثل في تغيير في ذهنية نظام يرفض الاعتراف ان مشكلته مع الجزائريين اوّلا وان البحث عن دور إقليمي للجزائر اقرب الى سراب من ايّ شيء آخر. هل تتغيّر ذهنية النظام ام تكتفي الجزائر بالانتهاء من بوتفليقة مع ما يعنيه ذلك من تأجيل لانفجار كبير يبدو البلد في غنى عنه…