صادفت بداية هذا الاسبوع، الذكرى الأربعون لاندلاع الحرب الأهلية في العام 1975، وقد سبقتها جملة من التراكمات السياسية والأمنية التي كان انفجارها متمثلا بالحدث الذي أطلقت عليه تسمية «بوسطة عين الرمانة»، التي كانت تقل عددا من اللاجئين الفلسطينيين، فكان الضحايا الذين قتلوا منهم، النار التي ما لبث لهبها أن أوقد الحرب في شتى أنحاء لبنان، وهي حرب استمرت حتى العام 1990.
أربعون عاما مضت على انطلاقتها، أكلت خلالها الأخضر واليابس، وأسفرت عن استشهاد ما يناهز الماية والخمسين ألف شهيد، ينتمون إلى جميع الجهات والفئات اللبنانية، وتحول لبنان الأخضر إلى كتل من خراب ودمار، و«هشل» أبناؤه إلى كافة أصقاع الدنيا فاستقر بعضهم وما زال حيث ألجأته الحرب، وعاد بعضهم إلى متابعة ما تبقى لهم من عمر، في هذه البلاد، فكان منهم من قضى ومنهم من ينتظر، وهؤلاء الذي امتد بهم العمر حتى الآن ما زالوا يتساءلون: هل تعلّم اللبنانيون من دروس الأربعين عاما ومآسيها، وهل تمكنوا من أن يمسحوا عن وجوههم، وعن وجه بلادهم، غبار الأحداث وخرابها ودمارها، وهل أطلت من بين رماد الحرب، ومن بين مقابر الشهداء وأجساد المتضررين المعطوبين، نتائج التدمير الاجتماعي والإنساني والنفسي؟
وأول صورة للمستجدات على هذه الساحة اللبنانية المنكوبة بعد مرور أربعين عاما على نكباتها المتلاحقة، تبرز أمام ناظر الجميع، هي صورة الخليج العربي عموما، ومدينة دبي، إحدى ألمع وأروع بلدان ذلك الخليج التي نبتت وأينعت من رمال الصحراء، وقد عرفنا أهل الخليج ومواطنيه الأشقاء، زائرين وسائحين عربا ملأوا أماكن الاصطياف في بلادنا، بفنادقها وشققها المفروشة وأماكن الوفادة المختلفة فيها، كما وملأ ابناؤهم جامعاتنا ومدارسنا، وأرسل العديدون منهم مرضاهم إلى مستشفياتنا، حتى لبات لبنان يعرف من خلالهم خاصة، بأنه مستشفى الشرق، وبعضهم سماه مستشفى العرب. وقد تدفقت أموال الخليجيين إلى لبنان، فاستثمرت بها تجاريا وعقاريا وسياحيا، وكان لها أثر بليغ في تطوير هذا البلد المتحضر والمتطور، فبات بفضل أبنائه اولا، وأشقائه العرب ثانيا، لؤلؤة الشرق، وبعضهم أطلق عليه لقب سويسرا الشرق إلى أن جاءت تلك الأحداث اللعينة، فنقلته من هذه المرتبة المتلألئة والمزدهرة والمتفوقة، إلى أربعين عاما من الجحيم كانت كافية لجرّه بعنف وقساوة إلى مراحل مؤسفة من الإنحطاط والتخلف، ومن موقعه الرّيادي المتقدم في كل مجالات التفوق والتحضر والانطلاق الصاروخي في شتى أنواع البروز الثقافي والعلمي والفني والأدبي والعمراني والإجتماعي، ومن حال نهوض جزئي حاول فيها الرئيس الشهيد رفيق الحريري تحقيق إنقاذ لبنان وخلاصة وإنهاضه من شتى أنواع كبواته وسلبياته القديمة والمستجدة، ولكن عملية اغتياله الإجرامية، استكملت مأساة هذه البلاد التي أصيبت بتراجعات مرعبة، وباتت دبي «سويسرا الشرق ولؤلؤته الحديثة» وباتت بيروت على ما تبقى منها وفيها من معالم الحضارة الحديثة، مدينة متخلفة، يتلاعب بها قادة وزعماء معظمهم من قادة الميليشيات الذين حفظوا وفرضوا لأنفسهم أدواراً بارزة وأوحدية في قيادة هذا الشعب، سياسيا وإجتماعيا وحضاريا، فأذاقوه الويلات، وكبلّوا فيه أياديه وتفوقه الفكري والثقافي، ومنعوه عن الاستمرار في حياته الديمقراطية، فجردوا ديمقراطيته من أساسياتها ومعالمها المتطورة، وها هم اليوم يمنعونه من انتخاب نوابه ورئيس جمهوريته، ومن ملء الفراغات في مؤسساته الإدارية والأمنية وشلّوا فيه وفي مؤسسات بلاده كل قدرة على الحركة والإنتاج، بل وهم يمنعونه اليوم من استخراج الثروات من باطن أرضه ومن عمق مياهه، وها هي إسرائيل، وها هي قبرص، تستثمران ثروتهما التي اكتشفت في نفس الوقت الذي اكتشفنا فيه ثروتنا، وها هي إسرائيل بعد أن باتت دولة بترولية، تستعمل بترولها وغازها المستخرج حديثا لحاجاتها الداخلية، وتبيع من فائضه ما تشاء إلى من تشاء، بينما نحن، يبقى بترولنا قابعا في أعماق مكانه، ينتظر صحوة الوعي اللبناني وشفاءه من غفلته، ويبقى زعماؤنا على شد الحبال فيما بينهم يصر معظمهم على حفظ حصته من قالب الجبنة الكبير، وانتزاعه من أفواه هذا الشعب المأزوم والمحروم من مقومات العيش السليم واللقمة المحررة من رغبات كل طامح وطامع أثيم، من دون أن ننسى ما باتت عليه مواقع الثروة من حال تتناتشها ما بين نفس الأيادي المطعّمة برائحة الأجبان الدسمة المختلفة، وتبقى القوى الميليشياوية واضعة يدها على مواقع الثروة الأوفر والأكبر وذلك في ينابيعها الأساسية في العديد من الوزارات والإدارات والمرفأ والمطار والجمارك.
ونأتي إلى ما كان اللبنانيون يسعون إليه قبيل مرحلة الاستقلال وبعدها: الخروج من اللعبة الطائفية وتحقيق أقصى قدر ممكن من وحدة الشعب بكل جهاته وفئاته من دون أي تفريق أو تمييز فئوي ومذهبي، وصولا في ذلك إلى إلغاء الطائفية من النص الدستوري ومن واقع الحال الاجتماعي والوطني.
لم يتحقق من ذلك مع الأسف أي قدر من التحقق، على العكس، التراجع إلى الخلف قائم على قدم وساق، فإلى جانب أن إلغاء الطائفية قد أصبح مع مرور الزمن، أمرا مستحيلا، ها نحن نشهد اليوم تفسخا لبنانيا لا مثيل له، ينذر في حال استمراره، بتحقق مصائب مستجدة لا تحمد عقباها. ها هم المسلمون وبشكل خاص منهم السنة والشيعة قد وضعوا في ما بينهم شرخا عموديا عميقا أصبحت ازالته غير متوقعة على المدى المنظور، وبعد أن كان التقسيم في ما بينهم يتخذ تسمية «اللبنانيون العرب السنة» و«اللبنانيون العرب الشيعة»، أصبحت انتماءات بعضهم تزجهم في انتماءات مذهبية غريبة تماما عما عرفناه في لبنان قبل أربعين عاما ويطلق البعض عليها حاليا صفة الفارسية، والمسيحيون بدورهم انقسموا قسمين، واحد متشبث بلبنانيته الصافية المعروفة عن المسيحيين تاريخيا، وآخر مؤيد لانتماءات وممارسات وانتماءات محورية غير لبنانية كانت إلى أمد قريب مرفوضة تماما من جميع المسيحيين، وها هو الحوار في ما بين الجميع «شغّال» على الساحتين الإسلامية والمسيحية، وها هو كل منهما يضع هدفا لحواره قشورا من المواضيع الحوارية لا يؤدي اعتماده في الظرف الحالي إلا إلى تلطيف الأجواء العامة وتبريدها منعا لانفجارات طارئة وغير متوقعة، أما المواضيع الرئيسية التي تسمن وتغني من جوع، وتسمح بإعادة توقيف البلد على رجليه وعلى ركائزه الوطنية، فأمر مرجأ إلى حين تبلور الأوضاع والأحداث الإقليمية والتفاهمات الدولية، وما هو حادث في هذا الصدد، وما هو متوقع، لا يُنبئ بما يسر، بل يؤشر إلى استمرار حالات الاضطراب والاحتراب والتفسخ، وإن الأوضاع اللبنانية، الممسوكة بقدرة قادرة حتى الآن، يمكن أن يفلت زمامها من أيادي الممسكين بها لدى أول حدث أمني على حد أدنى من الأهمية، بما قد ينقل البلاد من وضع سيئ إلى أسوأ إلى أسوأ، ويا ساتر أستر.