IMLebanon

بعد «الأيادي السود» متى يقول القضاء «كفى»؟

لم يسقط لبنان بعد. إنه يتساقط وبسرعة. مناعته، من انعدام البدائل، من هشاشة المجتمع، من رداءة المحاولات. ليس عند اللبنانيين، غير هذا «اللبنان» العاصي على التغيير، والقادر على تجديد حياته وفساده وانحطاطه إلى درجة غير مسبوقة. إنه بلد يتساقط ولكنه لا ينهار.

النقابات تمت مصادرتها. فرغت من قضاياها ومن ناسها. هيئات رثة تشبه الهيئات الرسمية اللبنانية. الأحزاب، كانت لها أيام، ولم يعد عندها مكان إقامة إلا بالتبعية للطوائف والمحاور. السلطة السياسية المالية تساهم في التطبيع مع الفساد والتشظي المذهبي. «تيار المستقبل»، لا مستقبل له. هو ماضٍ جداً وحاضر بالالتباس. وما له، هو له وحده، وما ليس له، هو له ولغيره. نصف الدولة منه ومعه. «التيار الوطني الحر»، لا إصلاح يرجى ولا تغيير أبداً. توقف «التيار» عند محطة الرئاسة وانكشف كله. لا «صوت يعلو فوق صوت المعركة» إلى بعبدا. وبعبدا سراب مستدام… الحزب التقدمي الاشتراكي، لا تقدمي ولا اشتراكي. يخبط خبط عشواء. لا يصدقه خصومه ويشكك به حلفاؤه. حملات رئيسه على الفساد، تثير الدهشة والاستغراب. حركة «أمل»، ماضٍ مضى. ما بقي منها يصلح لتدوير الزوايا وإخراج الحلول من الأكمام. سمعتها بحاجة إلى آذان. هي والآخرون جلساء المائدة ذاتها. لكل حصته حتى التخمة… «القوات اللبنانية» تصوِّب على «حزب الله» أولاً وآخراً وبين بين. تطاول في غير محله. حصته محفوظة بالقسطاس بعد اتفاقه والجنرال. تفاهم بعد تخاصم، كأن شيئاً لم يكن. الاثنان في صف واحد انتخابياً وناسيا، برغم ما صنع الحداد بينهما. ولقد صنع كثيراً من الأحقاد التالفة… يبقى «حزب الله»، همه الأول، الانصراف إلى تقوية المقاومة وحمايتها، يليه هم الدفاع عن حليفه بشار الأسد في سوريا ومحاربة الإرهاب التكفيري. أما ما له علاقة بالنظام والإصلاح ومحاربة الفساد وبناء الدولة، أمور ليست ضمن دائرة التكليف السياسي. مرابطته مع الجنرال تقطع الطريق إلى بعبدا و «ما بعدها» لا أمل يرجى من تراث ما بعد الحرب اللبنانية. هؤلاء جميعاً مشتبكون على الصغيرة والكبيرة، ويغضون الطرف على الصغائر ويعمون عن الكبائر، وبعضهم شريك فيها… عبث. فمن أين المفر؟

الحراك المدني أدى قسطه وارتاح باكراً. طاقته على التحريك ضئيلة. قدرته على التأثير شحيحة. اليسار تقاعد. العلمانيون شتات. كأن لا أحد في لبنان، يستطيع أن يوقف سقوط لبنان عند حد، كأن اللبنانيين قد اقتنعوا أن بلدهم حالة قدرية، والاهتراء المتنامي وجهة ومسار محروس بعناية «آل كابوني» السياسية والمذهبية.

ومع ذلك، يحاول البعض تقليد ما يحصل في دول العالم. لسنا البلد الوحيد المبتلى بالفساد الأعظم. الإعلام يلعب دوراً في الاكتشاف والكشف عن مصادر الفساد والمفسدين. الاعلام اللبناني يقوم بالواجب، بنسبة وافرة. إنما، هو صوت صارخ في البرية. يسمعونه فقط. زجل الفساد على كل شفة ولسان. لم يصل بعد إلى القبضة العالية والأقدام الزاحفة في الشوارع، لتعلن العصيان على «كلن»، بلا استثناء. لا شفاعة لفاسد صغير يدلل على الفساد الكبير.

في بلاد، غير لبنان، يتصدَّى القضاء للفساد أحياناً. تاريخ إيطاليا ليس «مافيوزيا» دائماً. المافيا تتحكم بالأسواق الظلامية. تعشش في الإدارة وتتكئ على السياسيين. حتى الفاتيكان لم ينج من هذا الفساد، خاصة في المصارف التي يساهم فيها. تاريخ إيطاليا هو تاريخ القضاة أيضاً. أصحاب «الأيادي البيض» الذين خرقوا الصمت السياسي وأعلنوا دولة القضاء على المافيات، كلما تعرَّف عليه… بالأمس، تجرأ قاضٍ برازيلي على الرئيس السابق لولا دي سيلفا والرئيسة الحالية ديلما روسيف بتهم الفساد قد تنذر بانقلاب الصورة التي عرفتها البرازيل، بعد صعود اليسار «المبتسم» وتبوّئه السلطة ديموقراطياً.

لسنا إيطاليا ولا البرازيل ولا أي دولة تعلي القانون على الجميع. لبنان ينتمي إلى مجموعة الدول التي تتباهى بدوس القوانين وتشريع السطو والبلطجة والأحكام المنافية للشرعية القانونية. القضاء عندنا، ليته يفعل. ماذا لو كان بالإمكان التعويل عليه. هو جسم مخترق. سمعته لا تمت إلى امرأة قيصر. تحوم حوله الشبهات. مواقعه موظفة سياسياً وطائفياً. ينتمي بجدارة إلى منظومة الدول المتخلفة، حيث الشفافية تقارب العمى.

ومع ذلك، من حق اللبنانيين البؤساء في واقعهم، المصدومين من حجم الارتكابات والفضائح، العاجزين عن مكافحة أسياده المنتخبين «ديموقراطياً» والمحميين طائفياً، أن يعوِّلوا على نخبة من القضاة تقول: «كفى».

هل من أحد ما يبدأ؟ الثقة بالعدالة، خطوة أولى في بناء الدولة. قوام الدولة دستورها وقوانينها. الثقة بالقضاء، لا تأتي من الخارج، لا تأتي من الناس. تصدر من أفعال القضاة وأحكامه. لا نجد سيرة ذاتية لقضاة معصومين وعصاميين، نادر هذا القوس الذي عرف قضاة قادة. يتمتعون بصلابة الموقف ونقاء الضمير وسند المواد القانونية… القضاء الموثوق، هو من إنتاج قضاة موثوقين، قادرين على الصدام العلني مع هذه الطبقة السلطوية وأركانها… يحكى عن فساد ولا يحكى عن فاسدين. السجون خالية منهم. نصدِّق القضاء، عندما يصير مشاغباً على السياسيين والطائفيين والفاسدين.

حتى الآن… «الأيادي السود».

هل غداً؟ الأيادي البيض؟

ليت!