IMLebanon

بعد إيران: تركيا شرق أوسط نووي

من بين الحدود الفاصلة بين دول الشرق الأوسط، تتميز الحدود التركية ـ الإيرانية بأنها الأكثر هدوءاً واستقراراً منذ منتصف القرن السابع عشر، في زمن الإمبراطورية العثمانية وإيران الصفوية. وبين الدولتين تاريخ طويل من التعاون ومصالح اقتصادية ضخمة، والأهم إرادة بالتواصل المجدي لم تتأثر بتفكك السلطنة العثمانية ونشوء دولة تركيا الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، ولا بالثورة الإسلامية في إيران منذ ثلاثة عقود ونيف. وظلت العلاقات بين الدولتين سلمية على رغم منظومة الرادارات التي نُشرت في تركيا في 2011 لمصلحة الحلف الأطلسي واعتراض إيران عليها. وحتى «الربيع العربي» الذي انخرطت فيه الدولتان بدعم أطراف النزاع المتقاتلة، لم يعكر صفو العلاقات بينهما.

الاختلاف بين إيران وتركيا يبدو جلياً في أسلوب العمل. إيران الإسلامية دخلت المنطقة العربية منذ مطلع الثمانينيات واستفادت من ظروف مؤاتية في لبنان والعراق وسوريا، بينما انتقلت تركيا بقيادة الرئيس أردوغان من مساعي التفاوض غير المباشر بين سوريا وإسرائيل إلى إدخال أكثر الجهاديين السلفيين تطرفاً من كل دول العالم إلى «أرض الجهاد» السورية. راهنت تركيا على الإخوان المسلمين، وراهنت إيران على حلفاء آخرين في حالات مختلفة بين دول المنطقة وشعوبها. تركيا بدت مستعجلة، بينما إيران أخذت وقتها في تمدد نفوذها الإقليمي وفي التفاوض مع الولايات المتحدة. طهران فاوضت واشنطن والدول الكبرى حول الملف النووي بينما تركيا اصطدمت بدول الاتحاد الأوروبي فانتقلت من «صفر مشكلات» إلى «صفر علاقات» مع أوروبا التي سعت أنقرة للانضمام إليها منذ وقت طويل. العلاقات بين تركيا وإسرائيل وصلت إلى حد القطيعة بعد عقود من التعاون الوثيق، بينما وقعت واشنطن وطهران اتفاق لوزان على رغم «غزوة» رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو للكونغرس.

يعتمد الطرفان سياسة واقعية في ما يخص شؤونهما الثنائية، بعيداً من الإيديولوجيا وشعارات التحدي، ويفصلان بين الخلاف السياسي والعلاقات الاقتصادية والإستراتيجية. توازن رعب ومصالح متنوعة تحكم العلاقات بين تركيا وإيران، خلافاً لعلاقاتهما مع دول الجوار العربي. اصطدمت إيران مع مصر في عهد الرئيس السادات وتركيا اصطدمت أخيراً مع الرئيس الأسد. ومع أن إيران دولة إسلامية وتركيا أردوغان تحمل مشروعاً إسلامياً مغايراً، لكن ساحة التنافس بين المشروعين حدودها العالم العربي. علاقات تركيا وإيران نموذجية في براغماتيتها، وهي علاقات لا تنطبق على الواقع العربي حيث الحدود الجغرافية فاصلة في زمن ضعف الدولة الجارة الأقوى ومتلاشية من وجهة نظر الأقوى عندما تأتي الساعة للتوسع. والأمثلة عديدة في المشرق والخليج وشمال أفريقيا.

الامتحان الأصعب في العلاقات بين أنقرة وطهران محوره المسألة الكردية. الأكراد متواجدون تاريخياً على حدود دول (العراق، إيران، تركيا وسوريا) تتجاذبها الآن نزاعات غير مسبوقة. استطاعت تركيا أن تتأقلم مع الحالة الكردية الجديدة بعد الغزو الأميركي للعراق ونسجت علاقات مع بعض القادة الأكراد وأقامت حواراً مع الزعيم الكردي المسجون عبدالله أوجلان. ولإيران علاقات تاريخية مع الأكراد شهدت توترات، غير أنها قابلة للاحتواء. وفي مناطق التواجد الكردي في سوريا، حيث دولة الخلافة الإسلامية، وقع الصدام أخيراً مع الأكراد في معارك ضارية في كوباني (عين العرب). المسألة الحساسة في المنطقة بالنسبة إلى تركيا وإيران تتمحور حول مشروع الدولة الذي يلازم الوجدان الكردي بسائر مكوناته منذ نحو قرن ولم يتحقق إلا جزئياً في إطار النظام الفدرالي في العراق. الأكراد اليوم يلقون دعماً دولياً ولن يكون مصيرهم مشابهاً لمراحل سابقة في مطلع القرن العشرين. وقد تلتقي مصالحهم مع مصالح الدول الكبرى أكثر من دول المنطقة، خصوصاً تركيا حيث الأقلية الكردية كبيرة وفاعلة.

تبقى الإشارة إلى الزمن النووي الآتي وما قد يحمل من تداعيات، وتحديداً احتمال قيام تركيا نووية، بعد إيران، وقبلها إسرائيل. كما قد تلوح في الأفق طموحات نووية لدول أخرى في المنطقة، أبرزها المملكة العربية السعودية، مصر والأردن. الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران قد يفتح شهية تركيا، ولا شيء يمنع أنقرة من أن تطور قدرات نووية، أقله لأغراض سلمية، متمثلة بإيران. وفي حين حرصت تركيا على إقامة أفضل العلاقات مع إيران، خصوصاً في عهد حزب العدالة والتنمية، إلا أنها كانت شديدة الحذر من مشروع إيران النووي وحاولت إيجاد المخارج له عبر وساطة دولية ودعمت موقف الاتحاد الأوروبي المؤيد للعقوبات على إيران، ولكن لم تقف جهاراً ضده. ولعل أكثر ما يقلق تركيا، المكانة السياسية والمعنوية لإيران بعد فك العزلة الدولية عنها بسبب الاتفاق النووي وتداعيات هذا الأمر على صراع النفوذ بين الدولتين في ساحات النزاع العربية. كما أن المشروع النووي قد يشكل في الوقت المناسب رافعة لتعبئة شعبية وشرعية بديلة للحزب الحاكم في تركيا بعد أن يكون المشروع الإسلامي قد أخذ مداه الممكن ومع تراجع إمكانية تمتع أنقرة بعضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي.

بعد إيران النووية لا شيء يحول دون أن تعتمد تركيا التوجه نفسه على رغم المظلة الأمنية التي يوفرها الحلف الأطلسي. إنه فعلاً شرق أوسط جديد لكن بإشعاعات نووية، سلمية حتى إشعار آخر. وبين الآخر والآخرة قد يخلق الله، عز وجل، ما لا تعلمون.