لا يدرك الكثير من الذين سيتوجّهون إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد ما الذي ينتظرهم في اليوم التالي، وتحديداً ما الذي تخطّط قوى السلطة لتنفيذه عندما ترتاح من وطأة الانتخابات، وتتخلّص من عبء الناس عليها. ولو أدرك هؤلاء ما ينتظرهم، لغيَّروا آراءهم في الصناديق. لكن قوى السلطة نفسها مطمئنة إلى أنّها، في أي حال، ستبقى مسيطرة على اللعبة بالكامل، وأنّ أحداً لن يقف في وجهها.
يتناقل العديد من المراقبين والديبلوماسيين تقارير عن مستوى الاحتقان الذي ستشهده الساحة في لبنان بعد انتهاء الانتخابات النيابية. ويعتقد البعض أنّ الفترة المقبلة ستشهد نزول الناس إلى الشارع مجدداً، في ما يمكن اعتباره الجولة الثانية من «الانتفاضة»، أو «ثورة» 17 تشرين 2019.
لكن آخرين يُظهِرون التشاؤم ويقولون: هذه «الثورة» فشلت، ولا مجال لإحيائها. والدليل هو أنّ أركانها قدّموا أسوأ نموذج في خوضهم الانتخابات. فقد توزَّعوا على لوائح متنافسة، وأوقعوا أنفسهم في هزيمة جماعية أمام قوى السلطة، علماً أنّ هذه «الثورة» كانت قد سقطت بالخداع وبالقمع في العام 2019، قبل أن يتخلّى عنها داعموها وأصحابها.
وسقوط «الثورات» لا يكون مسألة بسيطة ما دامت عوامل النقمة قائمة، وما دام المجتمع في وضعيةٍ من انعدام التوازن. وفي عبارة أكثر وضوحاً، عندما تسقط الثورات، تتحوَّل النقمة إلى فتنة، ما دامت عاجزة عن التحوّل إلى ثورة.
وسيكون خطِراً أن يسلك لبنان هذا المسار، إذا لم تتدخّل القوى الدولية والإقليمية الراعية للاستقرار في لبنان وتتدارك المأزق، بخطوات فاعلةٍ تنفّس الاحتقان الاجتماعي والسياسي والطائفي.
ولكن، ما هي الإشارات التي يبني عليها هؤلاء المراقبون مخاوفهم للمرحلة المقبلة؟ يتحدّث هؤلاء عن مجموعة ألغام على وشك الانفجار في لبنان خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وأبرزها الآتي:
حتى اليوم، قام المعنيون في السلطة بضبط سعر صرف الدولار بشكل مفتعل وغير منطقي، عندما رموا في السوق يومياً عشرات ملايين الدولارات من الاحتياط الإلزامي في مصرف لبنان، والذي هو عملياً ما بقي من الودائع.
وسيُصاب الناس بالصدمة عندما يكتشفون أنّ ضبط سعر الصرف تحت سقف الـ30 ألف ليرة في الأشهر الفائتة كلَّفهم أثماناً باهظة، من أجل تمرير الانتخابات بحدّ أدنى من النقمة على قوى السلطة، أي إنّ الأمر كان مجرد عملية احتيال، ومِن حسابهم، وأنّ مفاعيلها زالت تماماً، وأنّ مصرف لبنان تجرّأ وأوقف الدعم نهائياً ما أن انتهت الانتخابات!
واستتباعاً، سيوقف المركزي كل أنواع الدعم للسلع، حتى الحيوي منها، بما في ذلك البنزين والقمح والدواء، ما سيضيف عبئاً على الناس يصعب تحمُّله في ظل العجز عن تصحيح معادلة الرواتب. ويوحي الرئيس نجيب ميقاتي في الأيام الأخيرة بمحاولته استدراك هذه الثغرة الخطرة، من خلال توقيعه مرسوم زيادة غلاء المعيشة.
وبعد الانتخابات ستقوم الحكومة والمجلس النيابي بإقرار الموازنة العامة التي وُضعت في الأدراج موقتاً، لئلا تؤدي الزيادات الهائلة في الرسوم الواردة فيها إلى ارتفاع النقمة ضدّ قوى السلطة في صناديق الاقتراع. وهذا الأمر سيشكّل ضغطاً اجتماعياً إضافياً يصعب تحمّله.
وقد بدأت قوى السلطة تسوِّق سياسياً وإعلامياً فرضية «طارت الودائع». وهذا الأمر ستظهر تجلّياته لاحقاً، في ظل الغموض الذي يكتنف مجريات التفاوض مع صندوق النقد الدولي ومشروع «الكابيتال كونترول» الموضوع قيد النقاش وخطة التعافي ومسألة توزيع الخسائر بين الدولة والمصرف المركزي والمصارف التجارية والمودعين.
في هذه الأثناء، لن يشهد قطاع الطاقة أي انفراج بعد ظهور العثرات في مسألة استجرار الغاز والكهرباء من مصر والأردن، خصوصاً لجهة ارتباط ذلك بمسار المفاوضات حول آبار الغاز على الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. وسيعني ذلك للبنانيين مزيداً من الاحتقان الاجتماعي والنقمة.
وارتباطاً بهذا الملف، سيُفرض التحدّي على لبنان في الأسابيع القليلة المقبلة، مع احتمال بدء إسرائيل باستخراج الغاز من حقل «كاريش»، متجاوزة أي اتفاق مع الجانب اللبناني. فهل يقود ذلك إلى مغامرة أمنية يُدفع إليها لبنان في أصعب ظروفه؟
هذه الصورة السوداء للأيام الآتية بعد الانتخابات النيابية ليست مبنية على تخمينات أو افتراضات، بل على معطيات مؤكّدة. فقوى السلطة على وشك إزاحة القناع عن وجهها بعد انتهاء الانتخابات، لأنّها لم تعد تخشى أي عقابٍ تتعرّض له في الصناديق. ومرّة أخرى، ستكتشف أنّها قادرة على إخضاع الناس بوسيلتين: الخداع والقمع.
لكن هذه اللعبة لا تخلو من المخاطر. فالاهتزاز الاجتماعي قد يتحوّل اهتزازاً طائفياً بتجلّيات أمنية، إذا ما تلقفته يدٌ خارجية لها مصلحة في الاستثمار. وفي لبنان، هناك الكثير من الأيدي التي غالباً ما تكون في جهوزية تامة.