لم يكن ينقص اللبنانيين إلا الفصل الهزلي الذي نشاهده بكل المَلل المصاحب لفكرة نعرف جميعاً تفاصيلها السمجة.
هذا هو لبنان. هذه هي الطبقة السياسية الحاكمة، وهذا هو الجمهور، وهذه هي المعادلات التي تقول لنا، مرة بعد مرة، إن اللبنانيين يحتاجون إلى وصي ينهرهم ويبعد بعضهم عن بعض، وإن الجمهور المتورط في هذه الانقسامات سيظل يدفع ثمن ولاءاته العمياء.
خرج وسيخرج كثيرون يقولون إن ما سُرِّب عن لسان جبران باسيل، هو حديث عادي يقال كل ساعة في الصالونات. وفي المقابل، سيخرج كثيرون ويقولون إن ردّ فعل جمهور حركة أمل، ردّ فعل عادي يحصل عند كل استحقاق مشابه. والقولان يهدفان إلى شيء واحد، هو منع الناس عموماً، أو البقية من غير المصطفّين هنا وهناك، من التعليق أو الاحتجاج، وهو أمر لن يحصل على أي حال. وستُثبت الانتخابات النيابية المقبلة، أن من يصفون أنفسهم بالتيار الثالث، ليسوا في حقيقة الأمر، سوى «نقّاقين» ليس بمقدورهم الاتفاق على لائحة انتخابية واحدة.
إذا كان باسيل يقوم بالأمر لأسباب انتخابية،
فإن ردّ الفعل الفوضوي يخدمه
في الوقائع المباشرة، ليس من حق جبران باسيل قول ما قاله. حتى عندما يتحدث بزهو عن استعادة حقوق المسيحيين، فهو لا يمكن أن يكون انتقائياً، لأنه يعرف تمام المعرفة أن من سلب حقوق المسيحيين هو فريق متشكل من قوى كانت تعمل في ظل التسوية الأميركية ــ السعودية ــ السورية. ثم إن تجربته الشخصية، كما تجربة التيار الوطني الحر في رحلة استعادة الحقوق، لا تعكس حرصاً كاملاً، ولا تدلّ على وجود جهد كامل لاستعادة حقوق المسيحيين كمواطنين لا كطائفة. بل على العكس، إن كل ما جرى حتى الآن يقول إن التيار الوطني الحر، كما القوات اللبنانية، إنما يريدون النفوذ المتماثل لنفوذ الأقوياء بين المسلمين. ويكفي أنه لا يمكن، اليوم، أيَّ مسيحي لا يرضى عنه التيار أو القوات أو المردة أن يصل إلى منصب عام مهما دنت أو علت رتبته. فما الذي تغير؟
أمر آخر، وهو أن على التيار الوطني الحر وآخرين، قراءة وقائع اللعبة السياسية بطريقة جدية وعلمية. مثل أن يفهم الجميع، بأنه ليس صحيحاً، على الإطلاق، أن بمقدور حزب الله التحدث باسم حركة أمل أو نبيه بري. وأنه ليس صحيحاً أن حركة أمل هي حركة لا تمثيل شعبياً لها، وأنها محمية تتبع لحزب الله. ومن يفهم هذه الحقيقة، يعرف عندها كيف تدار الأمور.
في الجانب المقابل، يحتاج الرئيس بري، وحركة أمل، والجمهور الموالي، إلى لحظة هدوء. الأمر لم تعد ممكنة معالجته بحالات الاحتجاج العشوائية تحت عنوان «الأهالي غاضبون». كان يجب على هؤلاء البحث عن وسائل جديدة، وعن ابتكارات حتى لطريقة إشراك الجمهور في الاحتجاج على فعلة شنيعة قام بها خصمهم السياسي. ذلك، بأنه إذا كان جبران باسيل يقوم بالأمر لأسباب انتخابية، فإن ردّ الفعل الفوضوي يخدمه، وهذا ما ظهر في بروز مؤشرات على تعاطف مسيحي كبير معه، والأنكى أن قسماً من جمهور تيار المستقبل، أظهر تعاطفاً مع باسيل، بذريعة أنه «خرج من يقول للشيعة… حلّوا عنّا»!
في جانب آخر، الأمر يبدو معيباً، عندما يحصل، وفي لحظة واحدة، استعادة شريط من السلوكيات التي لن تفيد أحداً. وبات من الضروري القول اليوم، إنها مظاهر غير مرحَّب بها، ولا تفيد في شيء. وهي لن تضيف إلى قوة رئيس المجلس شيئاً كما لن تضعفه عراضات الخصوم الآخرين.
في حالة البلاد المقبلة على انتخابات نيابية مفصلية، والمترافقة مع تهويل إسرائيلي إضافي، ومع استنفار سعودي غير مسبوق لجعل لبنان في حالة شبيهة بحالة اليمن، يجب أن يكون الجميع في موقع من يتحمل المسؤولية عن لسانه وأهله وأنصاره. وإذا كانت الغالبية من القوى السياسية تعتقد أن ظهوراً عاجلاً للسيد حسن نصر الله سيعيد الأمور إلى نصابها، فهو اعتقاد لا يصيب في كل الأوقات!