مبدئياً سقطت الموصل قبل أن يبدأ الهجوم لتحريرها من قبضة» داعش». أغرب ما في هذه الحرب منذ بداياتها مع قيام هذه «الدولة السوداء«، «الانقلاب» الذي قامت به «الشرطة» (وبتحفظ كبير) ضد «الخليفة» ومسارعته الى عاصمته الثانية في الرقة. قد يكون ما حصل، اذا كان قد حصل، محاولة داخلية للحدّ من الخسائر في معركة خاسرة أساساً، وقد تكون كلها عملية تفخيخ للهجوم على أساس ان «داعش» اصبح ضعيفاً ولا داعي لهذه الحشود العسكرية، وفي الوقت نفسه إنقاذ القيادة بزعامة البغدادي تمهيداً لمواجهات اخرى وبتكتيكات مختلفة وعناوين متعددة، والأهم انه حتى يتم اتخاذ القرار بتحرير الرقة تكون الفترة مرحلة مهمة لإعادة انتاج القوة والفعالية ورفد المقاتلين بالعزيمة والصمود تمهيداً لمعارك أكبر ومختلفة في تكتيكاتها وعلى قاعدة استراتيجية تتناسب مع المتغيرات.
واضح ان خيارات «داعش» تضيق في وقت تتزايد خيارات المتحالفين فعلاً أو بالقوة ضده. في هذا التحول تكمن الاخطار الجديدة. في الأساس تحرير الموصل لا يعني تحرير العراق من «داعش» ومن الفكر والالتزام الداعشي عند مختلف القوى، لان تعمق المذهبية بالدماء، والأطماع الإقليمية، والتنافس الدولي لحيازة العراق، تفتح كل الأبواب نحو حروب جديدة بالوكالة، لان لا أحد سيدخل في حرب مباشرة طالما الخسائر من كيس شعوب المنطقة، والأرباح مضمونة لخزائنهم. رغم ذلك فإن «داعش» وحروبه الإرهابية ستكون مؤلمة أكثر ومن الصعب ملاحقته خصوصاً أن منسوب الانخراط في تطرفه المذهبي سيكون أعلى أكثر فأكثر، وأن استخدام البعض له سيكون وسيلة مضمونة لمتابعة الحرب. يبدو أن لا شيء في هذه الحروب ممنوعا، وإلا كيف أنتج النظام الأسدي جزءاً مهماً من «داعش»؟ وكيف قدمت إيران الشيعية الملجأ لقادة من «القاعدة» بعلم واشنطن، على أساس أن طهران ضمنت ووفت بالتزامها في ضبط حركتهم وتحركاتهم خصوصا في تحييدها عن ضرباتهم؟
قد تخفّ وتيرة تصعيد الحرب في العراق، ويكون ذلك نوعاً من محاولة عبور المرحلة بأقل خسائر ممكنة، على ان تختبر القوى نفسها وقواتها وقوتها في سوريا. «القيصر» يعمل على دفع واشنطن الى الحائط في تحدّ يعلم أساساً انه لا يملك القدرة على تحمّل عواقبه، لكنه يرغب اللعب على حافة الهاوية وأحياناً من دون استهتار، حتى إذا استوعب خطورة اللعب، سارع الى عرض الهدنة التي ستقبل للحاجة اليها خصوصا ان الغرب عموماً واميركا خصوصاً لا يريدان الوصول الى المواجهة، إذ تكفي العقوبات، ثم وهو الأساس يجب ترك الفضاء مفتوحاً أمام الادارة الاميركية القادمة لوضع استراتيجيتها العامة في مواجهة سياسة «القيصر» ليس فقط في سوريا وإنما على صعيد العالم وخصوصاً ما يتعلق بالحلف الأطلسي!
يبقى وجود سؤال مشروع غائب إجمالاً عن الطروح وهو: ماذا عن إسرائيل؟ أين هي من كل ما يجري؟
لا شك أن اسرائيل طرف ولاعب أساسي. ولذلك فإن موسكو بقضّها وقضيضها وخصوصاً «القيصر» لا تتحرك في سوريا دون علم وخبر تل أبيب. التنسيق قائم على مختلف المستويات العسكرية والأمنية. لهذا فإن كل عملية قصف جوي أو صاروخي روسي تعلم بها تل أبيب مسبقاً، كذلك فإن كل عملية قصف واغتيال إسرائيلية داخل سوريا تُعلم بها إسرائيل موسكو. لذلك فإن طهران و«حزب الله« وباقي الميليشيات الشيعية تتحرك وتحارب تحت أنظار اسرائيل. لا يقف التعاون الروسي – الاسرائيلي عند هذه الحدود، بل هو أشمل ومستقبلي واعد اكثر. موسكو تعهّدت لإسرائيل أولاً بمبادلتها الضمان الأمني ( من «حزب الله«) لمنصات الغاز في البحر المتوسط مقابل شراكتها بالانتاج والتصدير. بهذا فإنها تنزع من الحزب حقه بالمقاومة وبموافقة ايران حكماً. الأخطر والأهم أن موسكو التي تريد سوريا منطلقاً لها للتمدّد في منطقة الشرق الاوسط الذي تعرف أدق تفاصيله منذ عقود طويلة، تريد الإمساك به كما يقول المثل «تفاحة مقشرة وليس صبيراً يدمي» كما سبق وأن حصل ويحصل مع الولايات المتحدة ومعها الغرب عموماً. الطريق الى ذلك في إقامة السلام مع اسرائيل الذي يتم إنضاجه بفعل الحروب الداخلية والداعشية والخارجية (المباشرة أو بالوكالة مع ايران). المسار مفتوح وتقديم البراهين والادلة قائم. ايران، وحسب تصريحات إيرانية رسمية، فإن معركة تحرير القدس مؤجلة لربع قرن، وبالنسبة إلى «حزب الله« فإن موسكو تعمل على ترجمة قدراتها في ضبط اسرائيل طوال هذه الفترة، وإلا ما معنى ان لا تقصف اسرائيل قواعد الحزب المكشوفة في سوريا وأبرزها في القصير؟
أمام سوريا والعراق واليمن حروب طويلة متعددة الأشكال والأساليب والأسلحة لفترة طويلة، أما لبنان فإن سلمه الأهلي البارد سيبقى مهدداً وعلى حافة الهاوية، لكن الجميع لا يريد انفجاره حتى لا يتدفق المهاجرون اللبنانيون أمواجاً بعد أمواج لا يمكن للغرب رفضهم، خصوصاً المسيحيين منهم، الخاسرين الكبار لأن لبنان آخر حاضن لهم في هذا الشرق البركاني.