لن تصمُد طويلاً قرارات وقف إطلاق النار حول حلب. الأطراف كافة يستعدّون لجولة عنف على أساس اعتبار كلّ طرف أنّ النتيجة التي ستؤول اليها ستكون حاسمة وستفرض نفسها على طاولة المفاوضات في جنيف.
النظام السوري يندفع أكثر في تحضيره لاستكمال تطويق مدينة حلب هادفاً من ذلك إحكام الطوق حول الاحياء الخارجة عن سيطرته داخل العاصمة الاقتصادية لسوريا، وبالتالي السعي إلى خنق هذه المناطق، ما يعني عملياً إخراج تركيا بالكامل من المعادلة السورية.
في المقابل، تسعى التنظيمات المناهضة للرئيس بشار الاسد، وفي طليعتها «داعش» و»النصرة» ومن خلفها تركيا، إلى إفشال خطة تطويق حلب، وفي الوقت نفسه جذب الجيش السوري الى معارك كبرى لتشتيت أيّ جهد روسي للانطلاق في اتجاه الرقة انطلاقاً من تدمر.
بالنسبة الى النظام السوري، إنها معركة مصيرية ستُحدّد بشكل كبير صورة سوريا المستقبل من خلال فرض معادلة ميدانية تترجم إلى معادلة سياسية على طاولة المفاوضات.
وبالنسبة إلى أعداء النظام، إنها معركة استرجاع زمام المبادرة الميدانية لنسف فكرة بقاء الأسد لمرحلة ما بعد إنجاز التسوية، وخلف ذلك إبقاء النفوذ التركي حاضراً بشكل فاعل ميدانياً في منطقة شمال سوريا، وسياسياً من خلال أطراف المعارضة المشاركة في مفاوضات جنيف.
لذلك تبدو الأسابيع والأشهر المقبلة ملتهبة حيث سيستعمل الجميع كلّ قوته العسكرية، وسيجري على الأرجح اختراق بعض الخطوط الحمر أو المحظورات التي كان يلتزم بها المتحاربون ضمناً. لكنّ ثمّة ملاحظات أساسية وسريعة:
فالنظام السوري المصمّم على معركة تطويق حلب لا يزال يحسب لبعض الجوانب الغامضة من الموقف الروسي، ومن هذه الجوانب الغامضة التأجيل الروسي المتكرّر لمعركة حلب تحت أعذار عدة وسحب جزء من قوتها الجوية. والأهمّ التفاهم الأميركي- الروسي على الخطوط العريضة للملف السوري وخصوصاً للمعادلة السياسية التي ستُظلّل المفاوضات.
وجاءت المواقف الروسية السورية المتلاحقة لتُضيف من علامات الاستفهام. الرئيس السوري تحدّث عن ستالينغراد، فيما موسكو أشارت للمرة الأولى إلى أنّ الأسد ليس حليف روسيا. إذاً لا بد من تفكيك ألغاز هذه الرسائل واستخراج الاستنتاج الصحيح.
كذلك في تركيا، حيث أطاحت أزمة داخل الحزب الحاكم برئيس الحكومة أحمد داوود أوغلو، في وقت باتت واشنطن تخشى جدّياً على الاستقرار التركي الداخلي وسط حرب دائرة بين الجيش التركي والأكراد، وتلويح أنقرة بالتحرّك كسبيل للخروج من مآزقها ولمنع الشريط الكردي في سوريا ولتجنّب القضاء الكامل على دورها في حلب.
لكنّ واشنطن الغارقة في حملاتها الانتخابية والمنشغلة بكيفية احتواء ظاهرة دونالد ترامب، تبدو على يقين بحتمية انفجار الوضع في حلب. إنفجار قد لا تريد أن يؤدّي الى انقلاب الخطوط العريضة للتوازنات الميدانية، ولو أنها تأمل أن تساهم الحماوة المقبلة في إنهاك الأطراف المتحاربة أكثر تمهيداً لإعادة إدخالهم الى غرف المفاوضات في جنيف. وتراهن واشنطن على واقعية طهران التي تريد حماية الإنجازات السياسية للاتفاق النووي.
وفي معرض تأكيده على وجهة النظر هذه، يروي ديبلوماسي أميركي كيف أنّ الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي انسحب من المؤتمر الإسلامي الذي استضافته أنقرة، عقد لقاء قمة ناجح مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ما يعني أنّ إيران تُدرك جيّداً حدود المصالح والهوامش المتاحة، وأن لا حلول عسكرية في سوريا بل حلول سياسية.
وتروي مصادر ديبلوماسية أنّ الأمين العام لوزارة الخارجية الفرنسية كريستيان ماسي، سيزور طهران قريباً حيث سيلتقي المسؤولين الكبار تحضيراً للزيارة الرسمية التي سيقوم بها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الى باريس الشهر المقبل. والمعروف عن الديبلوماسي الفرنسي حنكته وخبرته القوية والأهمّ وصفه بالرجل القويّ وصاحب الكلمة المسموعة في صناعة القرار الخارجي.
وبالتالي فإنّ زيارة من هذا النوع تهدف الى التحضير لملفات في غاية الأهمية والحساسية، ستُطرح بين وزيري خارجية فرنسا وإيران خصوصاً أنّ باريس تجري تنسيقاً كاملاً في هذا الشأن مع واشنطن.
ويتردّد أنّ الملف اللبناني سيكون حاضراً كجزء من المباحثات التي ستدور، لكن قبل ذلك هناك أسابيع صعبة لبنانياً. ففي موازاة الحرب التي ستستعر في حلب سيتصاعد الاحتقان في لبنان. ذلك أنّ «داعش» و«النصرة» سيحاولان تخفيف الضغط عن حلب عبر التحرّك أمنياً في لبنان. صحيح أنّ قراراً دولياً صارماً متّخذ بحماية الاستقرار الأمني في لبنان وأنّ القوى الأمنية اللبنانية حقّقت إنجازات كبرى على هذا الصعيد، إلّا أنّ هذا الأمر لا يمنع وجود احتمالات تخريب.
لكنّ الأهم والأخطر هو الصراع السياسي الذي سينفجر فور الانتهاء من الانتخابات البلدية. وهذا الصراع سيستند من دون شك على خلفية الصراع الأكبر الحاصل في المنطقة خصوصاً في سوريا، والذي سيأخذ شكل الصراع السياسي في لبنان.
فبعد الانتخابات البلدية سيبدأ هجوم سياسي في اتجاهين:
– الأوّل في اتجاه الاستحقاق الرئاسي، وهو السبب الرئيس الذي حتَّم تسييس الانتخابات البلدية الى هذا المقدار. فالثنائي الحزبي المسيحي كان يعوّل على نتائج بلدية كاسحة ليعتبرها اقتراعاً شعبياً لإعادة فرض خياره الرئاسي والتهشيم بالخيار الآخر.
ولكن وفي حال سقوط نظرية اكثرية الـ 86 في المئة، فإنّ المحور الآخر سيبادر الى شنّ هجوم سياسي على أساس الخيارات التي أفرزتها الساحة المسيحية، وبالتالي انتفاء نظرية التمثيل الساحق والدعوة إلى تثبيت خياره هو.
– الثاني هو التوجّه إلى إقرار قانون انتخابات جديد تمهيداً للانتخابات النيابية بعد سنة من الآن، والتي باتت بحكم الامر الواقع بعد النجاح في تمرير الاستحقاق البلدي. لكنّ البحث عن قانون جديد للانتخابات لا يزال طبخة بحص ولو أنّ ذلك سيؤدي الى اشتداد السجال بين الفرقاء السياسيين في البلد.
لكنّ ثمّة مسألة ثالثة أشدّ خطورة واكثر اشتعالاً وستؤدي الى فتح معركة سياسية حادة.
ذلك أنَّ واشنطن تقترب من لحظة تطويق «حزب الله» مالياً، وطبعاً فإنّ للتوقيت علاقة بالتطوّرات الحامية في سوريا. وستندفع واشنطن في إجراءات مالية ومصرفية بدأ تطبيق بعضها، وسيردّ «حزب الله» بعنف وسيطرح كلّ أسلحته السياسية الدفاعية والتي قد تصل الى حدود طرح الميثاقية المالية الى جانب طرح الميثاقية السياسية السائد حالياً على الساحة اللبنانية.
ما يعني أنّ اللهيب العسكري في سوريا، والسياسي في لبنان، لم يعد بعيداً، وما بين اللهيبين قطب دولية مخفية ونظريات حول اجتراح الحلول من رحم المعاناة.