بدأ العد العكسي لما بعد رئاسة باراك أوباما. مهما كان رأينا في الشرق الأوسط، سلبياً منه فلا شك أنه رئيس أميركي مهم وكان يمكنه أن يكون أهم لولا «الارث البوشي« الثقيل في كل شيء، بحيث أنه كان يشد كل خطوة إيجابية له الى الوراء، وفي أحيان عديدة نفسيا خوفاً من الانزلاق باتجاه مخلفاته وخيباته. ربما كل ذلك أثّر على القرار الرئاسي الى درجة تبلور اتجاهين داخل الادارة الأوبامية. من الطبيعي في إدارة ديموقراطية مثل الولايات المتحدة الاميركية أن تتعدد الآراء لتثمر قرارات منتجة، لكن في حالة الادارة الأوبامية فإنها أنتجت المزيد من التردد والتراجع الى درجة سمحت لـ«البوتينية» بالاندفاع والتمدد وصولاً الى ما لم يعشه العالم من تهديدات بالمواجهة العسكرية في «الحرب الباردة» سوى في حالة نادرة هي الأزمة الكوبية.
الآن تحولت سوريا وبقاء الأسد الى كوبا جديدة تسمح للسفير الروسي في بيروت، التهديد «بإسقاط
الصواريخ الاميركية المنطلقة لأنه لا يمكن تحديد هدفها«. هكذا ببساطة يتم تهديد الولايات المتحدة حتى لو أن التهديد من الجيش الروسي وليس «الحرس الثوري«. اكثر من ذلك يتم قصف مدمرة أميركية من الشاطئ الحوثي، ولا تُتعب واشنطن نفسها بالتحذير. المهم أن البارجة لم تصب ولم يؤسر أحد من جنودها. لذلك لا يجب انتظار اي تغيير في المنطقة. أقصى ما يمكن توقعه المزيد من الاستنزاف على جميع الجبهات حتى نهاية العام الحالي، مع التراجع التدريجي في هذا التصعيد كلما تبلورت تركيبة الادارة الأميركية الجديدة. من المؤكد ان إدارة برئاسة هيلاري كلينتون لن تكون «بوشية« في مواجهات أزمات الشرق الاوسط بما فيها سوريا، لكن من الواضح أنها ستعيد صياغة الاستراتيجية الاميركية باتجاه أكثر تشدداً. بالنسبة لسوريا التي تعرف تفاصيل وضعها بدقة والذي وصفته في المناظرة الثانية مع منافسها دونالد ترامب بـ«الكارثي» ذهبت بعيداً في موقفها إذ «اتهمت نظام الأسد وروسيا وإيران بتدمير حلب حيّاً بعد حي« وأنها سوف تعمل على إقامة منطقة آمنة في سوريا« طبعاً كما يقول المثل الشعبي: «لا تقل فول قبل أن يعبر المكيال«. أما دونالد ترامب فلا يمكن المراهنة على أي موقف منه حتى لو ربح الانتخابات وذلك قبل مرور عدة أشهر على رئاسته واطلاعه على أسرار بلاده.
أما «داعش« الذي يبدو وكأنه دخل مرحلة العد العكسي في الموصل والرقّة بحيث أن جميع القوى الدولية والإقليمية تتحرك وتعمل على أساس الاقتراب من نهايته، فإنه يعمل كما يبدو على مواجهة هذا التحول بحيث تكون بداية جديدة له، وليس نهاية حتمية له، خصوصا إذا سقطت «عاصمته« الموصل. الأرجح أن تنظيم «داعش» يعمل منذ فترة على «زرع« قوى منظمة ومتماسكة له ضمن التنظيمات الاسلامية التي تنبت يوميا مثل الفطر والتي تتقاتل وتحارب في ما بينها في وقت تقترب «سكين« التحالف الروسي – الأسدي – الايراني، من رقبة كل المعارضة السورية. اذا ما نجح «داعش« في خطته هذه فإنه سيُصبِح خطرا اكبر على العالم، لانه سيعمل من أرض بلا عنوان، بدلاً من الآن حيث يبدو مكشوفاً وعنوانه معروف.
«وراثة داعش» ميدانيا تتم حالياً بسرعة مع ترك ثغرات كثيرة للتفاوض والتقدم والتراجع، مع بقاء عقد بعضها شديد التلغيم. وتبدو صورة المواقف في سوريا على النحو التالي :
روسيا تعمل على الامساك بالشاطئ السوري ليصبح «قاعدة« لها بكل ما تتطلبه من إنشاءات وحمايات. في الوقت نفسه تعمل على إنقاذ نظام الأسد بحيث يبقى دائم الحاجة إليها في المستقبل.
[ الولايات المتحدة الاميركية تعمل بصمت على التمدد في سوريا بحيث تفشل استراتيجية «القيصر« في لَيّ يد الادارة المنتخبة، وفي الوقت نفسه وضع اساسات قوية لبقائها حتى لو في جوارها الروسي. واستناداً الى مصادر تتابع التطورات الميدانية من جانب النظام فإن للأميركيين حالياً أربع قواعد: في المالكية والرميلان (جويتان) والمالحة (برية) وفي مثلث دير الزُّور – الحسكة – الرقة. وهي تستند في وجودها الى مئات الجنود – الخبراء يمكن رفع عديدهم في اي لحظة وتحالف متين مع الأكراد وبعض العشائر وقوى معتدلة من المعارضة.
[ تركيا في الشمال، ويبدو أن تحركها أصبح مرتبطاً بالتفاهمات مع موسكو، مع تشدد يأخذ العون من الموقف الأميركي حالياً ولاحقاً.
[ ايران تعتبر انها ليست بحاجة الى أكثر من مقرها العسكري «قيادة الحاج قاسم« في سهل الغاب، وفي منطقة مقام السيدة زينب الذي اصبح تحت حمايتها كلياً مباشرة أو مع قوات «حزب الله«، وهي لم تعد تخفي سقوط حوالى خمسين قائداً لها من «الحرس الثوري« أهمهم الجنرال همداني وقائد لواء «الفاطميّون» الأفغان الجنرال مرتضى عطائي. وهذا «التعفف« الايراني يعود الى ان بقاء الاسد في السلطة يعني انتصاراً لها خصوصاً اذا تكلل بتمددها في العراق وفي لبنان وفي اليمن.
هذه هي خريطة الوضع في المنطقة وخصوصاً سوريا. قد تنجح هذه الاستراتيجيات وقد تفشل في عالم يمر في مرحلة انتقالية المتغيرات فيه أكثر من الثوابت. من الطبيعي لقوى بمثل هذا الحجم ان يكون لكل منها خطة «ب» لمواجهة التحولات، وهذه لا يمكن تحديدها بدقة إلا في المستقبل الذي لم يعد بعيداً.