IMLebanon

مشهديّة ما بعد الرئيس الحريري

 

 

شكّل انسحاب دولة الرئيس سعد الحريري من المشهد السياسي فراغاً، لأنّ خروجه لم يأتِ على القاعدة الشخصيّة، بل أخرج معه تيّار المستقبل بالكامل. وهذا ما أثار استفهامات كثيرة، شكّلت طلاسم سياسيّة عجز المفكّرون السياسيّون عن حلّها. وما ملأ المساحات الإعلاميّة سوى سؤال واحد: مَن سيخلف الرئيس الحريري؟ وهل سيطغى التطرّف بعد خروج تيار المستقبل الذي يمثّل الاعتدال؟

 

ممّا لا شكّ فيه أنّ الحيثيّة التي يمثّلها تيّار المستقبل ليست موجودة عند أيّ فريق آخر داخل المجموعة الحضاريّة السنيّة. ولنا في هذه التجربة ما حدث في مقاطعة العام 1992 المسيحيّة حيث بقيت الساحة السياسيّة فارغة حتّى عودة القطبين المسيحيّين إليها، أعني تيّار العماد عون وحزب القوّات اللبنانيّة. واللافت في تلك المرحلة التي امتدّت من العام 1990 حتّى انتخابات العام 2000 أنّ هذا الحيّز التمثيليّ قد مُلِئَ شكليًّا، لكنّه في الجوهر بقي فارغاً حتّى عاد هذان القطبان وملآ مكانيهما الطبيعيّين وبأحجامهما الطبيعيّة.

 

ما يعني ذلك أنّ حيّز تيّار المستقبل سيبقى فارغاً لأنّه يمثّل الكيان السياسي للمجموعة الحضاريّة السنيّة. قد تنجح بعض الأحزاب أو الجماعات التي تنتمي سياسيّا إلى هذه المجموعة الحضاريّة بقنص بعض المراكز التمثيليّة التي شغلها المستقبَليّون، لكنّها لن تستطيع ملء الحيّز السياسيّ بالكامل. يبقى أنّ المستفيد الأكبر من الفراغ الذي افتعله الرئيس الحريري سيكون المجتمع المدني الذي قد ينجح ولو جزئيّاً على الأقلّ. ولعلّ هذا ما أراده الرئيس الحريري حيث أشار في كلمته الى أنّه الوحيد الذي تحمّل المسؤوليّة بعد 17 تشرين وقدّم استقالة حكومته ليعطي فرصة للفكر الجديد الذي ظهر مع الديناميّة السياسية الذي استجدّت.

 

لذا، على بعض قادة المجتمع المدني التواضع وتعديل الخطاب الاجتماعي – الاقتصادي الذي تبنّوه منذ بداياتهم ليملأ خطابهم الجديد الفراغ السيادي لدى هذه المجموعة الحضاريّة التي تشكّل عماد الكيانيّة اللبنانيّة. فعمليّاً، ما لم تتبنَّ المجموعات المدنيّة الخطاب السيادي الذي شكّل انطلاقة الرئيس سعد الحريري السياسيّة بعد اغتيال والده، ستتحوّل عاجلاً أم آجلاً بعملها السياسي إلى منظّمات غير حكوميّة في صلب التكوينة السياسيّة، وسينحسر دورها تباعاً، ولن تشكّل أيّ جماعات ضغط في المجتمع السياسي.

 

أمّا المستفيد الأوّل في حال فشل هذه الجماعات المدنيّة أو بعض التيارات أو الأحزاب أو النشطاء الذين ينتمون إلى المجموعة الحضاريّة السنيّة بملء هذا الشغور السياسيّ بحضور فاعل، فسيكون المستفيد الأوّل المشروع الذي بدأ الرئيس الحريري مهادنته بعد أحداث السابع من أيّار 2008، بمعنى آخر مشروع إيران في لبنان الذي يقوده الدويتّو الحاكم المكوّن من المنظومة والمنظّمة المتحكّمتين بزمام الحكم، وعلى حساب السياديّين والكيانيّين والأحرار.

 

فمن المؤكّد أنّ عزوف الرئيس الحريري هو خسارة كبيرة، وهذا الشغور السياسي الذي خلّفه لن يُملَأ بالوزن السياسي نفسه. ولا خوف من أيّ تطرّف لأنّ المجموعة الحضاريّة السنيّة بحدّ ذاتها لا تمثّل التطرّف كما جهد خصومها السياسيّون طوال فترة محاربة الرئيس الحريري على تصويرها. ولن تنفع كلّ الدعاية المتطرّفة عن هذه المجموعة بغضّ النّظر عن وجود التطرّف في بعض منها، لكنّ هذه الحالة موجودة في سائر المكوّنات بنسب وحالات مختلفة اليوم وعبر التاريخ.

 

وكي لا يفهم تحليلنا خطأ، نحن لا نبرّر أيّ تطرّف في العالم مهما كان مصدره، ولا سيّما التطرّف الداعشي الذي ظهر مؤخّراً والذي نجحت مجموعات إيران السياسيّة بالاستثمار فيه لضرب مشروع الحريري الحضاريّ. ولكن ذلك كلّه ذهب في الباصات المكيّفة مع الذين ذهبوا برعاية مَن ذهبوا إليه. والشمس كانت مشرقة وما زالت، والنّاس كلّهم عاينوا وسمعوا ذلك. من هنا، سيسعى التطرّف لأن يطلّ بأنفه لكنه سيفشل حتما لأنّ الطبيعة الانسانيّة تكرهه وتنبذه وترفضه. فليطمئنّ المصطادون في الماء العكر.

 

صحيح أنّ الحذر مشروع، لكن الغلوّ مرفوض. بانتظار عودة الأزرق إلى البحر اللبناني، على اللبنانيّين أن يحذروا جيّداً من الطرواديّين الزرق الذين اطمأنّوا أكثر بخروج الرئيس الحريري من المشهديّة السياسيّة. وهؤلاء المطلوب التصدّي لهم، والمطلوب من اللبنانيّين جميعهم المشاركة الكثيفة في الحياة السياسيّة. ولا يعني عزوف تيّار سياسيّ بأهميّة تيّار المستقبل التنازل عن الواجب الوطني السياسيّ لأنّ المقاطعة لن تكون شاملة، ولنا في ذلك تجارب المجموعة الحضاريّة المسيحيّة في تسعينات القرن الماضي. والكلّ يتذكّر كيف دخل نوّاب إلى النّدوة البرلمانيّة بأصوات قليلة العدد، وبنوا زعامات كرتونيّة نتيجة لعمالتهم للمحتلّ السوري، وشكّلوا الغطاء الدستوري له.

 

كي لا تتكرّر هذه المأساة، وكي لا نعود بالتّاريخ أكثر من ثلاثة عقود، وكي لا نخسر ما حقّقناه كلبنانيّين سياديّين أكثر ممّا خسرناه تنازلاً وتهاوناً وخوفاً واستسلاماً، المطلوب أن نقول الحقّ لأنّه بالحقّ وحده نتحرّر.