يبقى الحدث الإيراني والاحتجاجات التي رافقته في الأيام الأخيرة في قلب الصورة الإقليمية والدولية. وعلى الرغم من إعلان النظام الإيراني عمّا سمّاها « هزيمة الفتنة»، إلّا أنّ ذلك لم يحجب علامات الاستفهام التي ما زالت تُظللُ المشهد الإيراني بشكل عام، كما لم يزرع الطمأنينة الكاملة لدى الحلفاء القلِقين من تطوّراتٍ جذبَت إليها، وما تزال، كلَّ أعداء إيران على مساحة الكرة الأرضية، وعلّقوا عليها آمالاً وأحلاماً وأمنيات ورهانات على تكرار السيناريو السوري في الجمهورية الإسلامية.
تستخلص قراءةٌ ديبلوماسية للاحتجاجات في إيران وما أحاط بها في الداخل الايراني والخارج وكذلك أداء النظام حيالها، أنّ ثمّة أزمة كبرى كانت موجودة قبل الاحتجاجات وليس في الإمكان نكرانُها، بل ستبقى بعدها. إلّا أنّها ليست من النوع الذي يمكن أن يهدّد النظام ويجعله آيلاً للسقوط، كما يرغب الكثير من دول العالم، وحتى في داخل إيران.
تلحظ القراءة أنّ ثمّة فوارق كبيرة جداً بين ما حصَل في الأيام الاخيرة في المدن الايرانية، وبين ما حصل في إيران نفسِها في العام ٢٠٠٩ وكذلك ما حصَل في الأزمة السورية والتدخّل الدولي المباشر فيها.
ويتأكد ذلك من:
- قدرة التأثير من الخارج على الداخل كانت محدودة جداً، حيث اقتصَر على الهدير الإعلامي وردّات فِعل صوتية بتغريدات وحالات فيسبوكية للتجييش ونفخِ الوقائع من دون ان ينجح في إحداثِ شرخٍ داخلي.
- لم تبرز الى العلن قيادةٌ موحّدة تقود الاحتجاجات وتحرّكها، بل إنّ ما حصل في اساسه، كان كناية عن ردّات فِعل متناثرة على وقائع محلية، بحيث جاءت الاحتجاجات بشكل متفرّق وغير متّصل وغير مترابط.
- الانقسام العمودي الذي حصَل في المجتمع الإيراني في العام ٢٠٠٩ أثناء الحركة الاعتراضية لمير حسين موسوي بين الإصلاحيين والمحافظين لم يَظهر على سطح الاحتجاجات. بل على العكس من ذلك، ظهرَ ما يشبه التوافق العام، وخصوصاً بين المحافظين والإصلاحيين، على عدم حرفِ الحراك الشعبي، ذي المطالب الاقتصادية-الاجتماعية المحِقّة، عن مساره، وتحويل مطالبه باتّجاه شعارات مناوئة للثورة والنظام.
حيث تجلّى بوضوح على المستوى الشعبي العام، الحذرُ الشديد الذي أبدته فئات اجتماعية متعدّدة، بما في ذلك الفئات الأكثر فقراً، إزاء أعمالِ العنف التي شابت الاحتجاجات المعارضة للسياسات الاقتصادية التقشّفية المعتمدة من قبَل الرئيس حسن روحاني، وفق وصفاتِ نائبه للشؤون الاقتصادية إسحق جاهانغيري.
]وهذا التوافق، تضيف القراءة الديبلوماسية، جعلَ طرفَي الصراع السياسي الداخلي (الإصلاحيون والمحافظون) ينتهجان مقاربة شِبه موحّدة تجاه الأزمة الأخيرة، وهو ما عكسَته مواقف متقاربة، من قبَل المعسكرين المهيمنَين على الحياة السياسية في إيران، زاوجَت بمعظمها، بين الإقرار بالمطالب المحِقّة التي تحرّكَ على أساسها الشبابُ الغاضب في مشهد وباقي المدن الإيرانية، وبين التحذير من أعمال العنف، والمؤامرة الخارجية، والتصويب على الثوابت الأساسية للجمهورية الإسلامية، بما في ذلك تلك المرتبطة بالسياسة الخارجية.
هذا الأمر، أي التقارب، كما تشير القراءة، عبَّر عنه بيان شديد الرمزية أصدرَته مجموعة الإصلاحيين التي يقودها الرئيس الأسبق محمد خاتمي، والتي تحلّقت حول المرشّح الخاسر مير حسين موسوي في أحداث العام 2009، وقد جاء فيه حرفياً تنديدٌ واضح وصريح بـ«مثيرِي الاضطرابات الذين استغلّوا التجمّعات والاحتجاجات السِلمية لتدمير الممتلكات العامة وإهانة القيَم الدينية والوطنية المقدّسة»، وبـ«أعداء الشعب الايراني اللدودين، وفي مقدّمهم الولايات المتحدة وعملاؤها، الذين يدعمون ويشجّعون مثيري الاضطرابات والأعمال العنيفة، ما يثبت الخداع الكبير لأولئك الذين يدّعون الدفاع عن الديموقراطية والشعب الإيراني».
وإذا كانت مجريات الأيام الخمسة المضطربة في إيران، قد ختمها قائد الحرَس الثوري اللواء محمد علي جعفري بإعلانه عن «هزيمة الفتنة»، ما يَعني، بحسب القراءة الديبلوماسية، أنّ السيناريوهات – المخططات الأكثر تطرّفاً قد تلاشت، ولكنّ ذلك لا يعني خروج إيران من دائرة الأزمة الأشمل، المرتبطة بالوضع الاقتصادي المتفاقم، والذي لا تقتصر أسبابه على السياسات الداخلية، بل تتعدّاها إلى عاملٍ خارجي، يتمثل في انخفاض سقفِ توقّعاتِ الانتعاشِ الاقتصادي الذي كانت الحكومة الإيرانية قد رَفعته الى الحد الأعلى وبنَت آمالاً كباراً عليه، بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1، والذي كان يفترض بموجبه أن يُرفع الحظر بشكل تدريجي عن الاقتصاد الإيراني، ويغذّيه بعشرات المليارات من الدولارات.
وهذا الأمر أيضاً، كما تلفت القراءة الديبلوماسية تعثّرَ بسبب سياسة التصعيد التي انتهجتها الولايات المتحدة الاميركية، سواء في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، أو الرئيس الحالي دونالد ترامب، اللذين أصَرّا على تصعيد الضغوط الاقتصادية على إيران، من خلال فرضِ مزيدٍ مِن العقوبات والحظر على تأشيرات السفر، مع العِلم بأنّ ترامب يستعدّ للكشف عن مزيد من الإجراءات الضاغطة على الجمهورية الاسلامية خلال الأيام القليلة المقبلة.
وتلحظ القراءة الديبلوماسية أنه إذا كان ما جرى في إيران في الأيام الأخيرة قد أظهر من جهة، أنّ قدرة التحكّم والسيطرة لدى النظام ما زالت عالية، إلّا أنّ ذلك لا يُخرج ايران من دائرة الاستهداف والتصعيد المتواصل عليها من قبَل الولايات المتحدة الاميركية وبعض الدول الحليفة لها، فإنّه يكشف من جهةٍ ثانية، وبما لا يَقبل أدنى شكّ أنّ إيران في عمقِ مأزقٍ متعدّد الوجوه الداخلية والخارجية والاقتصادية والمالية، وحكومة روحاني أمام مأزق كبير جداً، لم تقدّم أيَّ معالجات اقتصادية حِسّية له وهو يضغط عليها كما يضغط على الشعب الايراني. وهو ضغطٌ يُضاف الى ضغط العقوبات الذي أوصَل الامور في ايران الى حدّ الصراخ.
إنطلاقاً مِن ذلك، تلفت القراءة الديبلوماسية الى أنّ النهاية السريعة للاضطرابات، من الطبيعي ان تشكّلَ فرصة للقيادة الإيرانية بجناحيها الإصلاحي والمحافظ لاتّخاذ إجراءات سريعة، تُحصّن الجبهة الداخلية، في مواجهة ما تتعرّض له البلاد من استهدافات خارجية. الى جانب إجراءات جذرية في الشقّ الاقتصادي الذي يشكّل العنوان الأوّلَ لإدارة الأزمة الشاملة. ولكن هل ستتمكّن من ذلك؟
تُفنّد القراءة الديبلوماسية بعضَ الوقائع، فتشير الى أنّ الشقّ الاقتصادي يتمحور حول مشاكل أساسية هي: عدم المساواة في توزيع الثروة بين المناطق في إيران، البطالة التي تصل إلى اكثر من 23 في المئة للفئة العمرية الشابة، لكن بعض التقديرات غير الرسمية تشير الى ارتفاعها بين الشباب في بعض المناطق إلى 45 في المئة، الفساد، ضعف القوّةِ الشرائية، وضعف العملة حيث هبَط سعر صرف العملية المحلية من 36000 إلى 42900 ريال مقابل الدولار الأميركي، نحو 12,5 في المئة خلال عام واحد.
هذه المعطليات الاقتصادية، التي تشير إليها القراءة الديبلوماسية، ربّما تتطلّب من الرئيس حسن روحاني تعاملاً جدّياً وسريعاً مع المطالب الملِحّة على المستوى الاقتصادي – الاجتماعي، على غرار التراجع عن الإجراءات التقشّفية المدرَجة في الموازنة الأخيرة للدولة، والتي تشمل اقتطاعات للمساعدات الاجتماعية وزيادة أسعار الوقود، ومعروف أنّه بعد توَلّيهِ الحكم في العام 2013، ألغى روحاني سياسات سَلفِه محمود أحمدي نجاد المالية والنقدية التي كانت تتّسم بالإسراف، ليحدَّ من نظام الإعانات النقدية التي كان يحصل عليها الإيرانيون من أبناء الطبقة المتوسطة والفقيرة، وأصبح مِثل هذا التقشف يثير استياءً متزايداً بين الإيرانيين، حيث لا يزال الاقتصاد يواجه صعوبات على الرغم من إنهاء العقوبات، فيما لا تزال مصارف وشركات أجنبية كثيرة تُحجم عن إبرام صفقات مع إيران، لأسباب مِن بينها أنّ الاتجاه المتشدّد للرئيس الأميركي دونالد ترامب حيال طهران يُعرقل التجارة والاستثمار.
إلّا أنّ ما تلحظه القراءة هو أنّ مسؤولية العلاج لا تقتصر على روحاني وفريقه الإصلاحي، فثمّة دور لا بدّ من أن يلعبه المحافظون، لجهة توفير الفرصة أمام الحكومة الحاليّة لمعالجة مشكلة الفساد، التي يشكو منها الجميع، وهو أمر يتطلّب مقاربةً جديدة للصراع السياسي، الطبيعي، بين الفريق الإصلاحي ومراكز القوى المرتبطة بالمحافظين، بما في ذلك الحرس الثوري، والتي تسيطر وفقاً لبعض التقديرات على ما يزيد عن 60 في المئة من الأصول في إيران.
ولعلّ الكلمة الفصل في هذا الأمر، كما تخلصُ القراءة الديبلوماسية، تبقى عند المرشِد الأعلى للجمهورية الاسلامية السيّد علي خامنئي، القادر وحدَه على التوفيق بين التناقضات للوصول إلى الصيغة الأمثل لإدارة الأزمة الحالية، والتي تتفاوت التقديرات بشأنها بين نظرة تشاؤمية تنظر بعين الريبة إلى إمكانية التوصّل إلى توافق بين النخبة الحاكمة بشأن الملف الاقتصادي، وبين نظرة متفائلة ترى أنّ ما جرى خلال الأيام الماضية، وما تتعرّض له الجمهورية الاسلامية من ضغوط خارجية، سيدفع المعسكرين الإصلاحي والمحافظ إلى البحث عن قواسم مشتركة وتقديم تنازلات متبادلة تُحصّن البلاد أكثر فأكثر من النزعات العدوانية الخارجية العابرة للحدود والقارات