من المؤكد أن كثيرين، مثلهم مثلي، قد استذكروا وتذكروا معركة «ذي قار» التي انتصر فيها العرب على الفرس، بمجرد سماع أول بلاغ عسكري لـ«عاصفة الحزم» في آخر لحظات مساء الأربعاء الماضي، فتلك المعركة أو الواقعة التي قادها البطل العربي الشهير هاني بن مسعود الشيباني أثبتت أن الأمة العربية مكونٌ رئيسي في هذه المنطقة وأنه لم يعد ممكنا الاستمرار بتحمل الهيمنة الفارسية على ما أصبح يسمى «الشرق الأوسط» الذي كان يشمل الجزيرة العربية كلها بالإضافة إلى بلاد الشام والعراق بالطبع.
كانت البداية في ذلك اليوم العظيم يوم «ذي قار»، فقد أعطى ذلك الانتصار الذي تحقق على إمبراطورية وصلت هيمنتها إلى اليونان ووصلت فتوحاتها إلى معظم ما يسمى الآن العالم العربي، للعرب، ثقة بأنفسهم كانوا بحاجة إليها لتكون هناك معركة «القادسية» الفاصلة بعدما منَّ العلي القدير على الأمة العربية بالرسول محمد صلوات الله عليه وبالإسلام العظيم الذي صهر في إطاره ورسالته العظيمة هذه الأمة مع الأمة الفارسية فكانت الأمة الإسلامية التي حققت إنجازات عظيمة في كل أرجاء الكرة الأرضية.
وحقيقة إننا كعرب، كأمة عربية، عندما جعلتنا «عاصفة الحزم» نستحضر كل هذه الذكريات ونسترجع بعض أحداث تاريخ بعيد ما كان يجب أن نسترجعه لأن المفترض أن الإسلام العظيم قد جبَّ ما قبله فإننا لا نسعى وعلى الإطلاق إلى استفزاز «الأشقاء» الإيرانيين الذين يجمعنا بهم تاريخ مشترك عظيم والذين من المفترض أننا نحن وهم نستكمل بعضنا بعضا بعيدا عن أي تطلعات عبر الحدود وبعيدا عن تدخل أي طرف في الشؤون الداخلية للطرف الآخر.
لكن ما العمل وما هو الخيار عندما نسمع مستشار الرئيس الإيراني، يقول إن بغداد عادت لتكون عاصمة الإمبراطورية الفارسية وإن الإمبراطورية الساسانية وعاصمتها «المدائن» ستعود.. وما العمل أيضا عندما يقول أحد كبار المسؤولين الإيرانيين إن 4 عواصم عربية، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، باتت تدور في فلك طهران؟! ثم ما العمل أيضا ونحن نرى هذا التمدد الإيراني الذي وصل، وفقا لما أصبح واقعا، إلى درجة الاحتلال الذي اجتاح العراق وسوريا ولبنان ووصل إلى صنعاء التي لا بدَّ منها وإنْ طال السفر؟!
عندما أسقطت ثورة الخميني، التي فرح بها بعض العرب أكثر من فرحة بعض الإيرانيين، عرش الإمبراطور محمد رضا بهلوي توقع كثيرون أن تقدم هذه الثورة، التي هي أحد أهم أحداث القرن العشرين فعلا ومثلها مثل الثورة «البلشفية» فيما أصبح يسمى الاتحاد السوفياتي ومثلها مثل الثورة الصينية.. والثورة الجزائرية، لأشقائها «هدية» حسن نوايا وفَتْح صفحة جديدة في العلاقات الأخوية ما بين الأمتين الشقيقتين، الأمة العربية والأمة الإيرانية أو الفارسية، بالانسحاب من الجزر الإماراتية الثلاث التي احتلها الشاه المطاح به وبعرشه وإعادتها إلى أصحابها، لكن هذا وللأسف لم يحدث بل ومما زاد الطين بلَّة، كما يقال، أن الإمام روح الله الخميني رحمه الله قد أطلق تصريحا استفزازيا قال فيه: «إن هذه الجزر إيرانية وستبقى إيرانية».
ثم وإنَّ ما يمكن أنْ يقال في هذا المجال أنَّ الإمام الخميني، وأنا شاهد عيان على هذا كما يقال، قد رفض التحدث مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي كان أول الواصلين وعلى رأس وفد كبير من بين أعضائه محمود عباس (أبو مازن) إلى إيران للمباركة بالثورة الإيرانية، ولو بكلمة عربية واحدة وأنه استعان بمترجم هو جلال الفارسي الذي عاد إلى بلده على طائرة (أبو عمار) نفسها بعد رحلة مناف طويلة والذي منع من الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية الإسلامية لاحقا لأن والدته أفغانية لا أعرف في حقيقة الأمر ما إذا كانت من قومية «الطاجيك» الشيعية أم من «الهزارا» الأقلية الأفغانية.
لقد ارتكب صدام حسين حماقة تصل إلى حدِّ الخطأ القاتل والغباء السياسي الذي لا يغتفر عندما استجاب لطلب الشاهبانو فرح ديبا زوجة شاه إيران التي زارته في بغداد وبادر إلى إبعاد روح الله الخميني طردا عن الأراضي العراقية لكن هذا لا يبرر إطلاقا أن تبادر الثورة الخمينية بعد نجاحها بأسابيع قليلة إلى فتح معسكرات تدريب للمتطوعين تحت شعار: «تحرير المراقد والمقدسات الشيعية في العراق»، وحقيقة إنَّ هذا قد فهم على أنه استهداف للعرب وللسنة وليس استهدافا لا للرئيس العراقي الأسبق ولا لحزب البعث الحاكم في بلاد الرافدين.
وأيضا وفوق هذا كله فإن الإمام الخميني حسم الجدل الذي كان محتدما حول البند المتعلق بدين الدولة في «القانون الأساس»، أي «الدستور» وأصر، خلافا لرأي بعض المعممين ورأي بعض الذين كانوا يريدون هذا «القانون الأساس» لمكونات الشعب الإيراني كلها ومن بينها أهل السنة والعرب والكرد والبلوش، على أن دين الدولة هو الإسلام على المذهب الجعفري الاثني عشري.
إن هذه هي إيران الجديدة، إيران ما بعد الثورة الخمينية وما بعد قيام «الجمهورية الإسلامية» وهي إيران التي سعت ومنذ لحظة انتصارها إلى تحويل العرب الشيعة، إنْ في العراق وإنْ في بعض دول الخليج العربي وإنْ في لبنان إلى جاليات إيرانية والتي سعت أيضا إلى إنشاء تشكيلات «ميليشياوية» مذهبية مسلحة في هذه الدول على غرار حزب الله اللبناني وحزب الله العراقي و«ميليشيات» جميل الأسد شقيق حافظ الأسد وأخيرا «أنصار الله» الحوثية في اليمن، وقبل ذلك «قوات بدر» العراقية وكل هذه الفصائل المذهبية التي تشارك في ذبح الشعب السوري وتشريده وتشتيته والتي تواصل اضطهاد العرب السنة في بلاد الرافدين.
إنَّ العرب، إنْ ليس كلهم فمعظمهم، وعلى مستوى القادة والشعوب يريدون علاقات أخوة وحسن جوار ومصالح مشتركة مع إيران كما مع تركيا، لكن الحُبَّ من طرف واحد غير ممكنٍ وغير مجدٍ، ولذلك وردًّا على كل هذه التصرفات وهذه السياسات الإيرانية وعلى هذه النزعة الإمبراطورية الساعية لاستعادة ما يسمى «أمجاد فارس» فإننا كنا مضطرين لاستعادة ذكريات «ذي قار» ذلك اليوم المجيد في التاريخ العربي وبخاصة بعد ما أطلق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز «عاصفة الحزم» وبعدما استعاد العرب ثقتهم بأنفسهم وانتفضوا ضد ما اعتبر العصر الفارسي الجديد وهذا هو ما أعاد صياغة معادلة موازين القوى في هذه المنطقة.. إنها صحوة عربية كالصحوة التي أطلق شرارتها هاني بن مسعود الشيباني، وهذه الصحوة هي التي جعلت الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يعيد النظر في بعض مواقفه السابقة وجعلت الأميركيين يتخلون عن اعتبار أنه لا دور ولا مكان للمجموعة العربية في هذه المرحلة وعن أن القوى الرئيسية على الخريطة الشرق أوسطية هي إيران وتركيا وإسرائيل.
ويقينا إنه لو لم تكن هناك «عاصفة الحزم» المباركة لكان اليمن الآن بشماله وجنوبه تحت الهيمنة الإيرانية المباشرة، ولكان باب المندب تحت سيطرة إيران، ولكان البحر في بداية تحوله إلى بحيرة فارسية، ولكانت جيوب العمالة وبخاصة في الخليج العربي قد بدأت هجومها على سيادة الدول التي من المفترض أنها دولها.. إن مستقبل التاريخ يتوقف في العادة على لحظة واحدة وإن هذه اللحظة في الحقيقة هي الخطوة الشجاعة التي أقدم عليها الملك سلمان بن عبد العزيز في نهايات يوم الأربعاء قبل الماضي في الخامس والعشرين من مارس (آذار) الفائت.