ليست المرة الأولى التي يشدد فيها السيّد حسن نصرالله على «عدم انتظار حوار إيراني-سعودي كون الأمور تزداد تعقيداً في المنطقة، وعدم انتظار مبادرة أميركية أو غربية كون لبنان خارج اهتمامات الدول وهو متروك لزعمائه وأحزابه الذين يجب ان يتحمّلوا المسؤولية التاريخية في هذه المرحلة».
قد تكون، في المقابل، المرة الأولى التي يقول فيها السيّد نصرالله: «لنذهب إلى الحوار الجدي»، هذه الدعوة التي أرفَقها بالكلام عن عدم التعويل على الخارج، وعن انّ الاستمرار في تقاذف التهم والمسؤوليات لن يزيد من شعبية أيّ من الطرفين.
وأهمية هذا الكلام ليس في إطلاقه، بل في ترجماته لجهة مدى استعداد «حزب الله» لكسر الجمود السياسي الذي يتحمّل مسؤوليته من خلال الوقوف خلف العماد ميشال عون رئاسياً وحكومياً. وبالتالي، هل دعوته الأخيرة تعني انه قرّر، ليس التخلّي عن عون، إنما إبلاغه عن نيّاته الذهاب إلى تسوية رئاسية تُعيد تفعيل عمل المؤسسات الدستورية؟
وهل دعوته إلى «الحوار الجدي» تعني انه قرّر فعلياً الالتزام بما كان قاله سابقاً إنّ العماد عون هو الممر الإلزامي للانتخابات الرئاسية وليس المرشح الإلزامي، أم انّ هذه الدعوة تعني الذهاب إلى ما هو أبعد من إنتاج السلطة نحو مقاربة النصوص الدستورية وضرورة تعديلها وتطويرها؟
الثابت في كل ما تقدّم هو الآتي:
أولاً، إلتزام «حزب الله» بتحييد لبنان عن مواجهاته الإقليمية، فيصعِّد ضد القيادة السعودية بشكل غير مسبوق، ويحرص في المقابل على استمرار الحوار مع «المستقبل».
ثانياً، رفض «حزب الله» الدخول في أي تسوية رئاسية، أكان دعماً للعماد عون أو تلطياً خلفه لمقايضة التسهيل في لبنان باستمرار النظام في سوريا.
ثالثاً، رفض «حزب الله» الانتقال من الدور الإقليمي العسكري-السياسي إلى الدور اللبناني، كما رفضه تسليم سلاحه والتزام النصوص الدستورية بدلاً من العقيدة السياسية.
وبمعزل عن الأسباب التي تدفع الحزب لتحييد لبنان، أكانت من طبيعة مصلحية ترييحاً لبيئته في اللحظة التي يخوض فيها مواجهات عسكرية، أم تنمّ عن قناعة بضرورة الحفاظ على الاستقرار اللبناني على رغم الخلاف السياسي، يجب تلقّف دعوة السيد نصرالله الجديدة بالذهاب إلى الحوار الجدي، إنما هذه الدعوة ترتِّب على «حزب الله» مسؤولية إثبات انها دعوة جدية وليس للاستهلاك السياسي-الإعلامي، وانّ الحزب قرر أن يبادر لإخراج الوضع من الجمود والمراوحة ومن منطق الحوار للحوار.
وفي حال قرر الحزب إجهاض هذه الدعوة يمكنه بكل بساطة القول انّ «الذهاب إلى الحوار الجدي» يعني التسليم بمطالبه الرئاسية والحكومية والسياسية، ولكن هذا يدخل في باب التشاطر والمزايدة، لأنّ من يقرّر الذهاب إلى الحوار ويدعو لتحويله الى حوار جاد يعني انه يقرّ أولاً بوجود طرف آخر، ومستعد ثانياً الوصول معه إلى مساحة مشتركة، الأمر الذي يستدعي من الحزب، لا من ١٤ آذار، الإعلان بوضوح في جلسة حوار اليوم عن استعداده البحث في تسوية رئاسية بالحد الأدنى، وسلّة متكاملة بالحد الأقصى قوامها انتخاب رئيس وسطي-توافقي، وقانون انتخاب تعمل حكومة انتقالية على إتمام الانتخابات النيابية.
ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل «حزب الله» في وارد الذهاب إلى تسوية سياسية تُخرج الوضع من جموده، أم يفضِّل استمرار الوضع الحالي؟ وفي حال قرّر الذهاب إلى تسوية، لماذا الآن، وما هي معطياته؟
وعلى رغم أن لا مؤشرات إلى نيّات الحزب الدخول في تسوية سياسية، إلّا انّ اللافت للانتباه انّ كلامه المكرّر عن عدم التعويل على الخارج أتى هذه المرة بعد الدخول الروسي في الحرب السورية، ما يعني انّ لديه قناعة علنية وضمنية بأنّ هذا التدخل لن يُفضي إلى حلول سريعة للأزمة السورية، وذلك خلافاً للترويج الذي يتولّاه فريقه السياسي والذي من الواضح انه يدخل في باب الحرب النفسية لا أكثر ولا أقل، خصوصاً انّ موسكو وبعد شهر تقريباً على دخولها الحرب السورية لم تنجح بتغيير الوقائع الميدانية، بل باتت تستجدي حلاً سياسياً يُخرجها من مأزق تورّطها العسكري في هذه الحرب.
وأمّا في حال قرّر «حزب الله» جدياً عقد تسوية داخلية فذلك يعني الآتي:
١- إستباق أيّ تدخّل روسي لحلّ الأزمة اللبنانية، لأنّ فشل موسكو بتحقيق حلّ في سوريا قد يدفعها في خطوة تعويضية إلى البحث عن تسوية في لبنان تحت مسمّى «اتفاق موسكو».
فأن تكون استراتيجية إيران وروسيا استراتيجية واحدة مبدئياً، لا يعني تسليمها كل الأوراق في المنطقة، لأنّ الورقة السورية اليوم أصبحت موضوعياً بيد موسكو، ولا رغبة لطهران بأن ينسحب هذا الواقع على الملف اللبناني، بل تريد إبقاء المبادرة بيدها، الأمر الذي يتطلّب الخروج من التعطيل السياسي قبل أن تُبادر موسكو لبنانياً.
٢- إستباق أي تسوية رئاسية في ظل امتلاكه معلومات عن ضغوط دولية لانتخاب رئيس جديد، الأمر الذي يفسّر قوله: «نحن في لبنان ننتخب مَن نشاء ولا يوجد اي أحد في العالم يفرض علينا ما يجب فعله».
٣- خشيته من انفلات الوضع وانفراط الاستقرار في حال استمرار التعطيل القائم، وبالتالي سقوط كل نظريته لتحييد لبنان من اجل التفرّغ للقتال السوري، حيث انّ تمسّكه بنظريته يتطلّب منه إعادة تفعيل المؤسسات لتجنّب الانزلاق نحو الفوضى.
٤- إثبات قدرته على إبرام تسوية في لبنان بمعزل عن المواجهة الإيرانية-السعودية في كل المنطقة، في إشارة إلى انه شريك في السياسة الإيرانية وليس مجرد منفّذ لهذه السياسة، وذلك تأكيداً لقوله «نحن في لبنان أصحاب قرارنا، ونحن من نقرّر الرئيس الذي نريده والقانون الانتخابي الذي نريده».
ويبقى انّ الأيام القليلة المقبلة كافية لتبيان ما إذا كانت دعوة «حزب الله» الى الحوار الجاد جدية وهدفها قطع الطريق على أيّ مبادرة روسية مُحتملة، أم لتسجيل النقاط الشكلية، علماً أنّ السيّد نصرالله لم يكن مضطراً الى الدعوة لوَقف تقاذف التهم بالتعطيل، وتذكيراً أنّ موسكو داعمة لكل القرارات الدولية الداعمة للبنان، ولم تضع أيّ فيتو على أيّ قرار يتصِل بالقضية اللبنانية.