Site icon IMLebanon

بعد أن فتحت المبادرة أبواب الأمل

في بكركي، إجتمع الزعماء المسيحيون الأربعة بحضور ورعاية غبطة البطريرك الراعي. إجتماعهم التضامني الباهر مشفوعاً بالرعاية البطريركية أُنتج آنذاك موقفاً مسيحياً إستثنائياً أفرز إلى الوجود تكاتفاً مسيحياً حول إيصال أي منهم للرئاسة الأولى، كون كل منهم يمثل بحيثياته المختلفة، الرئيس «القوي» الذي سبقت المطالبة به من قبلهم ومن كثيرين غيرهم من المسيحيين اللبنانيين.

كان ذلك بعد مرور ما يزيد على العام من فراغ رئاسي غير مسبوق سواء في لبنان أم في المنطقة أم في العالم كله، واستمر هذا اللقاء مع نتاجاته يجرجر نفسه مع شعاراته الحصرية إلى ما يقارب السنة والسبعة أشهر، والحال السياسية متجمدة عند نقطة الصفر.

وكرّت الأشهر، وها نحن نقترب شيئاً فشيئاً وشهراً بعد شهر، من عام الفراغ الرئاسي الثاني، وما يحصل في البلاد هو ما يراه الناس من كل أصقاع الوطن، من خراب وتدهور واقتراب من حافة الهاوية السحيقة التي إذا ما لامسناها وهبطنا إلى قعرها، فإن الوجود اللبناني كله كياناً ودولة وشعباً متوحداً في إطار وطني وميثاقي وديمقراطي حرّ ومستقل ومتميز، يصبح في خبر كان.

ولطالما كرّس اللبنانيون في أكثر من مناسبة ومن موقع، مواقفهم بوضع مسؤولية اختيار الرئيس الأول للبلاد على إخوتهم المسيحيين، وبالتحديد على قياداتهم صاحبة الكلمات الأولى والقرارات الفاعلة والفارضة، وسريعاً ما كان هذا الطرح المتكرر منذ عام وسبعة أشهر، يلقى اعتراضات نابعة من أجواء مسيحية ومسلمة تؤكد على وجوب أن يكون اختيار الرئيس الأول للبلاد، نتيجة سعي وطني شامل، فموقع رئيس الجمهورية هو لكل اللبنانيين، ولا يجوز تضييق إطاراته ومواصفاته إلى هذا الحد وبهذه الطريقة الفاضحة. ومع ذلك كله، فقد تركت القيادات الإسلامية للقيادات المسيحية وطوال السنة والسبعة أشهر الفائتة، شأن اختيار من يرونه ويتوافقون عليه، منعاً لأي استغلالات شعبوية وطائفية قد يضيفها البعض إلى اعتباراته الأوحدية التي ما فتئت تعكر على اللبنانيين صفاء وجودهم الوطني ونهجهم الديمقراطي، بمناسبة وبدون مناسبة.

مرّت الأيام والأسابيع والأشهر، والبلاد تغرق… تغرق… تغرق، في شتى أنواع المعضلات المصيرية وصولاً بهذا الغرق إلى أوسخ وأقذر المعضلات الحياتية وفي طليعتها، معضلة الزبالة ومستتبعاتها البيئية والصّحية، وها نحن اليوم نشهد اجتماعين متلازمين متوازيين على صعيد العمل الحكومي والإهتمامات السياسية العامة، واحد يتمثل بالإهتمام بالمعضلة الرئاسية والسعي إلى حلحلة عقدها والثاني يتمثل باهتمام حكومي بحلٍّ نهائي لمعضلة الزبالة التي انتقلت من مراتب الإهتمام العام إلى حلقة المراتب الأولى، الأشد وقعاً وأثراً «وجرصة» على مستوى السمعة العامة التي تحطّمت بالقدر الهائل الذي يتحول فيه هذا البلد المنكوب مع مر الوقت إلى كتل من الحطام والركام.

ويبدو أن لبنان بغالبية زعمائه وقادته الحاليين، يعشق العراقيل والمزالق والمطبات، فهو إذ يجاهر بوجوب التخلّص منها والتوافق على تخليص البلاد من نتائجها، يغرق في تجاهل خطورة الأوضاع القائمة. وها هو غبطة البطريرك وكثيرون من عقلاء هذا البلد، يطالبون القيادات والجماعات المتناكفة والمتصارعة والمتهمة بتجميد الأوضاع إلى ما لا نهاية، ها هو يدعوهم تكراراً، إلى اختزال خلافاتهم والقيام بتنازلات متبادلة في ما بينهم وصولاً إلى إنقاذ الوطن من تردي أوضاعه. وها هو سماحة السيد ينحو في نفس الإتجاه، مطالباً بمصالحة وطنية شاملة وبتنازلات متبادلة، تقي الوطن من أخطار الإستمرار في الإبقاء على الوضعية المخيفة القائمة المتمثلة بإبقاء رأس الدولة مقطوعاً لمدى مفتوح على المجهول، وقد باتت أيامه تكرج كرجاً سريعاً نحو بلوغ سنتين من شغور المركز الرئاسي الأول، وجاءت المفاجأة: الرئيس سعد الحريري تطوّع في عملية لم يجرؤ أحد من قبله على مقاربتها، داعياً إلى حل المعضلة الرئاسية من خلال طرح إسم النائب سليمان فرنجية لموقع الرئاسة، وذلك بعد أن عجز الفرقاء المسيحيون عن اختيار أي إسم رئاسي، سواء من ضمن الزعامات الأربع أم من خارجها، وما إن تمت إطلاقة هذه المفاجأة، حتى قامت قيامة كبرى ضمن الأطراف المسيحية الرباعية، وقيامة صغرى ضمن الأطراف الإسلامية ومن بينها بعض قيادات تيار المستقبل، ولئن كان مفهوماً أن يصاب الجوّ الإسلامي بشيء من الإهتزار والإستغراب وشيء من الرفض لدى بعض أوساطه، فالمستغرب حقاً هو الموقف المسيحي الذي سارعت بعض أطرافه إلى اتّهامٍ متسرّع جداً لسعد الحريري بأنه يحاول بإسم المسلمين السنة أن يفرض رئيساً معيناً بالإسم والإنتقاء المتلطي والمقنع ومن خلال التفاوض والاعلان عنه دون أي تشاور معهم، متناسين أن من حق كل ابناء الوطن وخاصة زعماءه أن يسهموا في حل مشكلة وطنية خطيرة، مستمرة منذ ما يناهز العامين خاصة بعد أن أحجموا بل فشلوا في الإتفاق على رئيس للدولة يعيد إلى جسدها الذي أصابه الإهتراء، رأساً يديرها ويقيلها من عثراتها التي بدأت تمتد إلى مواقع الخطر الوجودي بأقسى وأقصى معالمه ونتائجه، ونسي هؤلاء ادواراً وطنية هامة سبق لزعماء مسلمين أن قاموا بها لحل معضلات الرئاسة الأولى، التي كانت تقبل عليهم مع مطلع كل استحقاق رئاسي جديد، فكان الرئيس رياض الصلح وراء انتخاب الرئيس بشارة الخوري، وكان الرئيس صائب سلام وراء انتخاب الرئيس سليمان فرنجية، وكان الرئيس رشيد كرامي وراء انتخاب الرئيس الياس سركيس، وقد تمثل لبنان من خلال ذلك، في رأسه ورئاسته خير تمثيل من حيث النهج الديمقراطي الذي اعتمده في عمليات الإنتخاب، ومن حيث بروز أواصر التوحد الوطني في هذه الممارسة الميثاقية.

وبصرف النظر عن ذلك كله… نريد حلاًّ لوطن لا يجوز أن يتحكم بمصيره أحد بما يسبب له الغرق والاختناق وبصرف النظر عما إذا كان الرئيس الحريري قد أصاب أم أخطأ في مبادرته الرئاسية، وبالشكل الذي جاءت عليه، فإننا يمكن أن نكتفي منها بآثارها التي أدّت إلى تحريك الساحة اللبنانية وبالتحديد رئاستها المتجمدة تماماً منذ ما يناهز العامين، بما أعادها إلى مواقع الإهتمام المحلي والإقليمي والدولي، وبما أفسح في الأبواب والنوافذ إطلالة اضواء من الأمل، جديدة وواعدة وصالحة لإن تكون منطلقاً للدفع بعملية الإنتخاب الرئاسي إلى موقع التحقق وبالتالي، ها هي الحركة قائمة من حولها، وقد تسفر عن مجيء الوزير فرنجية للرئاسة وقد تسفر عن ترئيس غيره، فليسمح لنا الجميع بأن يفسحوا المجال أمام مبادرات الخير وإعادة البلاد إلى مواقع الحياة الطبيعية، ولا يكون ذلك إلاّ بأن يتآزر اللبنانيون جميعاً بعد الآن لتحقيق هذا الانجاز المنتظر بعد أن ملّ اللبنانيون من الإنتظار المضر والقاتل.