تتناقض التفسيرات حول «اتفاق أنقرة» الروسي ـ التركي على وقفِ إطلاق النار الشامل في سوريا وما سيؤول إليه، إلى درجة أنّ البعض بدأ يُجري على أساس هذا الاتفاق حسابات الربح والخسارة لهذا الفريق أو ذاك على المستويات اللبنانية والإقليمية والدولية.
يذهب فريق من السياسيين المعارضين للنظام السوري وحلفائه في قراءتهم للاتفاق الروسي ـ التركي إلى القول إنّ اللعبة الإقليمية والدولية «أصبحت أكبر من الجميع» في ضوء هذا الاتفاق، وباتت تتخطّى حتى الأطراف المنغمسة في الأزمة السورية والقوى التي تتمحور حولها.
ويرى هؤلاء أنّ لبنان والمنطقة باتا تحت «المظلة الروسية ـ التركية»، إذ إنّ الاتفاق حصل، في رأيهم، بمعزل عن الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك عن القيادتين الإيرانية والسورية.
وينطلق هذا الفريق السياسي من هذه الرؤية ليسأل: هل سينسحب حزب الله من سوريا، بانياً هذا السؤال على تفسير لديه مفادُه انّ الاتفاق الروسي
ـ التركي يقضي بانسحاب القوى الخارجية المقاتلة من سوريا، وهذه القوى مقصود بها في رأيه حزب الله حليف النظام، شأنه كشأن المسلحين الأجانب الذين جاؤوا من جهات الدنيا الأربع ليحاربوا إلى جانب مسلحي المعارضة بمختلف فصائلها المسمّاة «المعتدلة» أو المتطرفة.
لكنّ الفريق السياسي المؤيّد للنظام السوري أو الحليف له، يقول إنّ المستثنى الفعلي من الاتفاق الروسي ـ التركي الخاص بسوريا هم الاوروبيون وعلى رأسهم فرنسا وبريطانيا، والخليجيون وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية وقطر، فيما كان الجانب الاميركي الغائب الاكبر عن هذا الاتفاق، علماً أنّ الجانبين الاوروبي والخليجي كانا، برأي هذا الفريق، مَن حالَ دون توصّلِ مؤتمري «جنيف 2 « وفيينا إلى تسوية سياسية للأزمة السورية من خلال المفاوضات التي جرت بين النظام والمعارضة.
ويقول سياسيون من هذا الفريق إنّ القيادة الروسية بما اتّفقت عليه مع القيادة التركية إنّما يختصر العالم في مرحلته الجديدة، فالجانب التركي يفاوض الروسي ومن خلاله حلفاءه انطلاقاً من الظروف الصعبة التي يعيشها داخلياً وعلى حدوده ودولياً، ولذلك ينطلق في ما يتّفق عليه مع الجانب الروسي على أساس «الدفع»، أي تقديم الضمانات والتسهيلات في سوريا لمصلحة روسيا وحلفائها، وذلك في مقابل «القبض»، أي نَيل الدعم في معركته ضد التنظيمات الكردية المعادية له والانقلابيين وضمنهم جماعة الداعية فتح الله غولن، وكذلك دعمه في خلافه مع الاميركيين الذين يتّهمهم ضمناً بالتورّط في الانقلاب الفاشل ضدّه في تمّوز الماضي.
على أنّ الجانب الروسي، وفي ضوء اتّفاقه والجانبَ التركي، يدرك جيّداً أنه على رغم «التضحيات المحدودة» التي يَبذلها في سوريا لا يمون على تطبيق أيّ اتّفاق أو أيّ أمر في شأن سوريا على الأرض من دون التوقيع السياسي للرئيس السوري بشّار الأسد، والضمان الإيراني على الأرض.
كذلك يدرك الجانب الروسي أيضاً أنّ حلفه مع الإيراني والسوري لم يخُن بعضه لبعض يوماً منذ نشوئه، فهذا الحلف متكامل بكلّ مكوّناته، وله أهدافه المرحلية والاستراتيجية التي تتخطّى الأزمة السورية إلى مجمل الأوضاع في المنطقة راهناً ومستقبلاً.
ولذلك ذهب الى هذا الخيار ـ الاتفاق مع تركيا على وقفِ إطلاق النار في سوريا مدركاً أنّ هذا الاتفاق الذي يَستثني تنظيم «داعش» وكذلك «جبهة النصرة» الموجودة في مناطق فصائل المعارضة المصنّفة «معتدلة» سيؤدي لاحقاً إلى صدام بين هذه الفصائل التي تدعمها تركيا وبين «جبهة النصرة»، ما سيشعِل حرباً بين الطرفين تؤدّي إلى نهاية «جبهة النصرة» على الأرجح، أو ينتهي الطرفان معاً، ليؤول الأمر في هذه المناطق لمصلحة النظام وحلفائه.
ولذلك فإنّ موسكو أنجَزت الاتفاق بالشراكة مع الجانب التركي الذي كان قد فشلَ بدفع أميركي في فصل تنظيمات المعارضة عن «جبهة النصرة» عندما طرح موضوع قبول مشاركة المعارضة المعتدلة في المفاوضات مع النظام واستبعاد التنظيمات المتطرفة والإرهابية عن هذه المفاوضات.
ويرى السياسيون المؤيّدون لدمشق وحلفائها أنّ الاتّفاق الروسي ـ التركي إنّما «يقوّي» النظام وحلفاءه ويَجعلهم في موقف المبادر إلى طرحِ وقفِ إطلاق النار، خصوصاً أنّ بيان الناطق العسكري السوري قال إنّ هذا الاتفاق لا يَشمل «داعش» و»جبهة النصرة» والتنظيمات الأخرى المرتبطة بها.
ويردّ هؤلاء على «الذين يَستعجلون حزب الله الانسحابَ من سوريا»، فيقولون «إنّ هؤلاء المستعجلين يعيشون الوهم نفسَه والهزيمة نفسَها التي عاشوها عشرات المرّات قبل الآن، خصوصاً أنّ وقفَ النارِ قد يتزامن قريباً مع إنجازات كبرى على جبهة محاربة الإرهاب، وقد تكون استعادة تدمر إحدى هذه الإنجازات».
على أنّ اللافت الذي حصَل غداة إعلان الاتفاق على وقفِ النار الشامل كان دعوة «جبهة النصرة» إلى تشكيل ما سَمّته «الهيئة الإسلامية» لتوحيد الفصائل المسلحة كلّها تحت لوائها، فأوكلت الإمارة السياسية لأمير «أحرار الشام» علي العمر المعروف بـ «ابو عمر تفتناز» مبقيةً على الإمارة العسكرية لها بقيادة أميرها «أبو محمد الجولاني».
وفي أيّ حال يرى بعض المتابعين للأزمة السورية أنه أياً كانت التفسيرات لاتفاق وقفِ النار، فإنّ هذه الأزمة دخلت بَعده مرحلةً جديدة سيُبنى خلالها على ما بعد عودة حلب إلى كنف النظام، وستكون على الأرجح مرحلة «الحرب الأهلية» بين فصائل المعارضة في كلّ المناطق التي تسيطر عليها.