الازمة الرئاسية التي تقترب من عمر السنتين، كشفت العديد من المواقف، وازاحت الاقنعة عن العديد من الوجوه، وفي الوقت ذاته استطاعت ان تنتج بعض الايجابيات المهمة في بحر السلبيات التي تراكمت بفعل تعطيل استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية، وكانت تزكية سعد الحريري ترشيح سليمان فرنجية الى منصب الرئاسة الاولى، نقطة الماء التي طفح بها كأس هذا الاستحقاق الدستوري الأهم في حياة لبنان ونظامه البرلماني الديموقراطي وما يدور منذ مدّة من مخاض متعسّر لتحقيق هذا الاستحقاق، وما يرافقه من تغيير في المواقف وتبديل في المواقع، قد ينتج عنه خارطة سياسية جديدة لا تشبه الخارطة السياسية القائمة، ومن المنطقي القول، قياساً على تسارع الاحداث داخلياً وخارجياً، ان صورة هذه الخارطة لن تتأخر حتى تتضح معالمها.
عندما كان الصراع على أشدّه بين حزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، كانت الاصوات تتعالى عند المسيحيين، تناشد القيادات المسيحية، ان نظّموا خلافاتكم في شكل يريح المجتمع المسيحي، اذا كنتم غير قادرين على حلّها، وقد تجاوب كل من العماد ميشال عون، والدكتور سمير جعجع، والنائب سليمان فرنجية، مع هذه الرغبة، وبدأت الاتصالات والجسور تمتد بين بشري وزغرتا، وبين معراب والرابية، ونجح حوار القوات والمردة، باحترام العيش الواحد في منطقة الشمال، وتنظيم الخلافات في شكل يؤدّي الى معالجتها بالحوار والتفاهم وليس باللجوء الى القوة، ولكن الحوار بين الرابية ومعراب ذهب الى ابعد من ذلك، نظراً للوجود الشعبي المؤثر للجانبين على كامل الارض اللبنانية وما يمكن ان يحدثه هذا الوجود المشترك من حساسيات بين المناصرين الذين ورثوا الخلافات الدموية التي حدثت في نهاية الثمانينات واول التسعينات من القرن الماضي، وقد نجح الحوار بعد مناقشات طويلة ومصارحات معمّقة، بانتاج اعلان للنيّات يلتزم به الطرفان، اصبح مضمونه معروفاً من الجميع، ولكن البند الأساس الذي يحاول البعض تجاهله هو ان التيار الوطني الحر، اعلن رسمياً وخطياً التزامه اتفاق الطائف دستوراً لجميع اللبنانيين، بعدما كان تيار المستقبل يأخذ عليه رفضه الاتفاق والسعي الى نسفه.
****
بعد اجتماع قيادات 14 اذار، خرجت وسائل الاعلام المعروفة بحقدها على سمير جعجع، والتي كانت منذ البداية تتمنى وتعمل على تحقيق هذا التمنيّ، بأن لا يتم اي تقارب بين القيادات المسيحية، وخصوصاً بين عون وجعجع، بنشر مشوّه لكلمة جورج عدوان، الذي لم يقل شيئاً جديداً، بل كرر ما سبق وصرّح به العديد من نواب حزب القوات وقياداته بأن تأييد عون للرئاسة خيار جدّي ومطروح، في حال كانت الرئاسة الاولى من نصيب 8 آذار، والغريب ان بعض الاعلاميين والسياسيين المحسوبين على تيار المستقبل، إنساقوا مع هذه الحملة، واخذوا يبررون تفرّد الحريري بتزكية فرنجيه، بأن جعجع سبق له وتفرّد بترشّحه لرئاسة الجمهورية، وبطرح القانون الارثوذكسي وببدء حوار مع التيار الوطني، وكل هذه التبريرات على ما أعتقد الغرض منها التنصّل من ترشيحهم سمير جعجع، واي مرشح آخر من قوى 14 آذار، لأن وصول احد منهم الى الرئاسة الاولى يعني ان رئاسة الحكومة ستكون لقوى 8 آذار او لمستقل قريب من 8 آذار، وجميع الحجج والتبريرات الاخرى، ليست سوى لذرّ الرماد في العيون، علماً بأن سمير جعجع لن يقبل بأي رئيس للجمهورية يستبعد سعد الحريري من رئاسة الحكومة، على أقلّه الى ما بعد اجراء انتخابات نيابية وما يمكن ان تفرزه من نتائج، كما ان المسؤولين القواتيين من نواب وقيادات، متمسّكون بالتحالف الاستراتيجي مع تيار المستقبل، ولا يقيمون وزناً لهذه الخلافات ان كانت ستؤثر على هذا التحالف، كما انهم لا يقيمون وزناً لبعض المستقبليين الذين تعوّدوا على نمط التصرّف اثناء الوصاية السورية، وكما يقول احد القياديين القواتيين: ان احداً لا يقدر ان يملي على جعجع مواقفه، ولا هو من الذين «يبصمون عالعمياني» وان تأييد ترشيح عون، اذا وصل الى خواتيمه السعيدة، لن يبدّل شيئاً من ثوابت القوات اللبنانية من سلاح حزب الله، والتدخل الايراني في شؤون الدول العربية، وان الحزب سيكون في صفوف المعارضة ضد اي رئيس يخالف هذه الثوابت.
يبقى أخيراً ما ينقل عن سعي لاقامة جبهة مسيحية من نواب وشخصيات مسيحية، تقف في وجه تعاون عون – جعجع على تخطّي هذه المرحلة الاصعب في تاريخ لبنان، وهذا السعي اذا كان صحيحاً، فهو سيشبه التجمّعات التي كانت الوصاية السورية تشكّلها في وجه السياديين، من البطريرك الماروني نصرالله صفير، الى لقاء فرنة شهوان، ولن تكتب له الديمومة والتأثير.