بعد سبعة أشهر على بداية الحرب الأهلية اللبنانية في نيسان 1975، توفي الدكتاتور الإســــباني فرانسيسكو فرانكو، بعدما حكم بلاده لستة وثلاثين عاماً. وفي الوقت الذي كان فيه لبنان يعيد تأسيس ذاكرته الحديثة بالسلاح وأوهام الحسم السريع وعشــــرات آلاف الضحايا، كانت إسبانيا تتحـــضر لطي صفحة نظام نشأ في العام 1939 مع ختام حربها الأهــلية، وتتهيأ لتعامل مختلف مع تأريخ هذه الحـــرب وفهمها.
كانت الرواية المهيمنة حول الحرب الأهلية في إسبانيا، على امتداد معظم فترة حكم فرانكو، تعكس رؤية الطرف الرابح فيها. وحتى نهاية ستينيات القرن الماضي، كان الخطاب العام حيالها أسير سردية طاغية، مفادها أن انقلاب فرانكو في العام 1936، أنقذ البلاد من التشرذم والانقسام، فحافظ على هويتها الكاثوليكية ووحدتها «القومية»، ومنع وقوعها في أيدي الشيوعيين، وحال دون الفوضى التي بشّرت بها مجاميع الأناركيين المتحالفين مع «الجمهوريين» الأقرب إلى اليسار. ومع مرور الوقت، في ختام الستينيات تحديداً، بدأ يظهر توافق ضمني بين نخب إسبانية عريضة، يعيد تقديم قراءة مختلفة للحرب الأهلية بصفتها «مأساة شارك في صنعها الإسبان جميعاً». وبعد وفاة فرانكو بعامين، أي في العام 1977، برز توافق غير رسمي على تجاوز الحرب عن طريق نسيانها، سُمي بـ«ميثاق النسيان» pacto de olvido عززته قوانين رسمية تعفي مرتكبي أعمال العنف أثناء حكم فرانكو من الملاحقة القضائية. وقد ظل الأمر على هذا الحال، حيث الهروب الجماعي من الذاكرة، حتى صدور قوانين العام 2007 حول «الذاكرة التاريخية»، والتي قضت بـ «دمقرطة الذاكرة» الإسبانية، أي بعدم تقديم رواية تاريخية مشتركة على ما عداها، والاعتراف للأفراد والعائلات بحق حيازة ذاكرة خاصة حيال الحدث الذي قضى فيه نحو نصف مليون إنسان.
بين العام 1975 ونهاية الحرب الأهلية اللبنانية أكثرُ من خمسة عشر عاماً. وقد وضعت الأخيرة أوزارها في تشرين الأول 1990، مع العملية العسكرية التي أقصت العماد ميشال عون من قصر بعبدا، والتي مهّدت لبداية مرحلة الوصاية السورية على لبنان. بعدها بأشهر، انطلقت شرارة إحدى أعنف الحروب الأهلية الحديثة في أوروبا، في يوغوسلافيا تحديداً، مع إعلان كل من سلوفينيا وكرواتيا استقلالهما عن الاتحاد اليوغوسلافي، في واحدة من تبعات تقهقر المعسكر الاشتراكي والمنظومة الشيوعية.
وبعد سنوات على انهيار البلاد إثر دخولها في دوامة الصراعات الأهلية، أخذت تظهر لدى قطاعات شعبية ملامح حنين لزمن يوغوسلافيا الاتحادية التي شهدت ذروة حضورها على المستوى الدولي وتماسكها على المستوى الداخلي في عهد زعيمها الراحل جوزيف تيتو. وهذا الحنين الذي اصطلح على تسميته بـ Yugonostalgia يتمثل بجملة من التعبيرات التي تبرز منها، على سبيل المثال، الزيارات السنوية التي تقوم بها جموع من الدول اليوغوسلافية السابقة إلى قبر زعيمها الراحل.
على أن النوستالجيا إلى يوغوسلافيا السابقة لم تكن نتاج ارتباط أيديولوجي بمنظومة اشتراكية تؤمّن قدراً من الأمان الاجتماعي والكفاء الاقتصادي فحسب، بل كانت تعبيراً أيضاً عن انحيازٍ لهوية متجاوزة للانقسامات الإثنية، وسابقة لارتكاباتها الدموية بحق بعضها، وهي الارتكابات التي خلّفت مئات الآلاف من القتلى وأضعافهم من المهجّرين. وهذا الانحياز للهوية الثقافية يغلب أحياناً كثيرة على المضمون السياسي للنوستالجيا. أي أن الثقافة الشعبية المُستعادة من العهد اليوغوسلافي ظلّت أقرب إلى الذاكرة الفردية والجمعية، مما هو الفضاء العقائدي الذي كانت هذه الثقافة تسبح فيه. وهذه الثقافة الشعبية المُستعادة تعبّر عن نفسها اليوم، على سبيل المثال، بما يسمى «حفلات البلقان»، حيث يستذكر المحتفلون الذين يشاركون فيها من مختلف دول يوغوسلافيا السابقة، «طقوساً» شعبية عايشها مجايلو الدولة الاتحادية، كالملابس الفلوكلورية والموسيقى المرتبطة بتلك الحقبة أو المعبرة عنها، وهو ما يظهر أيضاً من خلال سيارات قديمة وملصقات تعود إلى الزمن الغابر ذاك.
بين الحربين الأهليتين الإسبانية واليوغوسلافية فارقٌ كبير. وبين عامي انطـــلاقة الأولى والثانية، حربُنا الأهلية اللبنانية التي ما زلنا نستشعر ندوبها. لا ذاكرة موحدة للبــــنانيين حيال هذه الحرب، ولا سردية واحدة بطبيعة الحال، ولا «دمقرطة للذاكرة التاريخية» أو محاولاتٌ لتجميع ما تيســر من «الذاكرات» الفردية المتشظية، كما على النمط الإسباني مثلاً.
ما زال أهل البلد يشيحون وجوههم عن ماضٍ ممتدٍ بتداعياته حتى حاضرنا. وما زال قسمٌ منهم يحيا في لبنانه كعابر سبيل، ريثما تتوفر ظروف الهجرة إلى خارجٍ يبيع أحلاماً وخيبات، فيما القســم الآخر يعيش حرباً أهلية باردة، تشـــتعل على دفعات وتخمد نارها على وقع أحداث إقليم متداعٍ.
أما بالنسبة للحنين إلى ماضٍ ما، كما هو حال «اليوغونوستالجيا» مثلاً، فلا حقبة تاريخية «مرجعية» في لبنان لهذا الغرض. يستذكر بعض اللبنانيين مرحلة الرئيس الراحل فؤاد شهاب، التي تعاملت الدولة خلالها مع شؤون الداخل بقدر أكبر من المأسسة ومستوىً أقل من الزبائنية الطائفية والحزبية، إلا أن المأخذ حيال التجربة الشهابية، فضلاً عن أدائها الأمني، يتصل بعدم تمكّنها من القضاء على الثقافة الريعية التي ســــادت قبلها وبعدها، فلم تتجـذر أو تؤسس لتيار يعوّل عليه.
لا علاج للذاكرة بعد حربنا الأهلية ولا حنين لحقبة «مضيئة» في تاريخ البلاد.
أما ما يزيد الوضع سوءاً، فهو غياب الفضاء العام الذي كان بالإمكان لعلاج من هذا النوع أن يتم عبره. وأما اغتيال وسط بيروت، بكل ما يــرمز اليه من ذاكرة جمعية، فعنوان لهذا الغياب.