إنها مرحلة استقرار قلّما شهد لبنان مثلها منذ سنوات طويلة. مرحلة أمن وأمان جاءت بعد مخاض عسير وصعب، واجه فيه لبنان أخطر مشروع في المنطقة بل في العالم، وانتصر عليه في بحور أيّام معدودة بفعل التضامن والتكاتف اللذين تجلّيا بالدعم السياسي والشعبي اللبناني لمؤسسة الجيش التي سطّر ضباطها وجنودها، ملاحم بطولية في مواجهة تنظيم «داعش» في جرود القاع ورأس بعلبك، وقطعوا كل ما يُمكن وصله بهذا التنظيم وأزاحوا عن لبنان واللبنانيين، خطراً ظل يتهددهم لفترة زادت عن أربع سنوات.
منذ سنوات ولبنان يُعاني من موجة الإرهاب التي ضربت المنطقة كلها نتيجة الأزمة السورية حيث تحوّل إلى نقطة استهداف متواصل إن عن طريق السيارات المفخخة، أو من خلال عمليات إنتحارية نفذها إنتحاريون بين الجموع بواسطة أحزمة ناسفة في أكثر من منطقة. وعلى مدى تلك السنوات تحوّل هذا الإرهاب إلى هاجس يومي دفع ثمنه اللبنانيون من أمنهم واقتصادهم حتى أن قسماً كبيراً منهم، آثر الرحيل عن البلد كله، طمعاً بالأمن والأمان والبحث عن الاستقرار في مكان آخر، لا موت ولا دماء فيه، ولا إرهاب يصطاد الناس في بيوتهم وأعمالهم ولا يحصد أرواح الأطفال في مدارسهم.
في غضون أيّام قليلة، تمكّن الجيش من تثبيت مرحلة جديدة في تاريخ لبنان وأضاف اليها جملة إنتصارات حملها إلى شعب منحه ثقته لحظة اعلانه الحرب على الإرهاب. انتصر الجيش للشرعية اللبنانية ولكل من آمن به وبجهوده. سقط له شهداء وجرحى. حاولت بعض الألسنة النيل منه ومن هيبته وسمعته، لكن تضحياته كانت بالمرصاد لكل هؤلاء خصوصاً بعدما أثمرت دماء شهدائه، انتصاراً يُشبه الجبال التي تحررت والشاهدة على عمليات الفرار والإنسحاب التي لجأ اليها عناصر «داعش» بعد مُحاصرتهم في مساحات ضيّقة كادت أن تلتف حولهم وتُنهي وجودهم بشكل كامل، لولا صرخات استغاثات كانت تُغطّي على أصوات القذائف والصواريخ التي كان يستهدفهم بها الجيش ليلاً ونهاراً.
أمّا وقد انتهت معركة الجرود على النحو الذي أراده الجيش وبالطريقة التي رسمها قبل بدايتها، على الرغم من الوجع والقهر الذي خلّفهما كشف مصير العسكريين لدى «داعش»، فيُمكن القول أن كل يوم مر من عمر الأزمة، ازداد الجيش قوة ومنعة وازدادت معه إرادة المواجهة والإصرار على مواصلة دحر الإرهاب من كل لبنان حتى تحرير كامل الأرض سواء من إرهاب الأفراد، أو مما يُعرف بـ»الخلايا النائمة» وذلك مهما بلغت التضحيات وغلت الأثمان. وهذا الإصرار تؤكده عزيمة لا تكل ولا تهدأ تُرجمت في أرض الميدان، إمّا بعمل نوعي نتج عنه إعتقال قياديين من «داعش»، وإمّا بتحرير كل الأرض. والأهم أنه ومن خلال الإنتصار النوعي الذي حققه الجيش على الإرهاب، فأن الممرّات التي كانت تُعتبر في ما مضى «آمنة»، ما عادت كذلك اليوم، وأن محاولات التسلل إلى داخل الوطن ذهبت إلى غير رجعة. فمن تبقّى هناك، هم عماد الوطن ورجاله ومنعته، وهم أصحاب القرار في الحرب واليهم توكل مراحل السلم.
من المؤكد أن معالم مرحلة الإستقرار التي نعيشها اليوم والتي جاءت بفعل تضحيات الجيش وبطولاته، بدأت تُرسم منذ بداية العهد الحالي رئاسة وحكومة. فقد آل هذا العهد على نفسه منذ انطلاقة عجلته السياسية، تعزيز قدرة المؤسسة العسكرية ودعمها سياسيّاً وتسليحاً وفتح المجال أمام التعاون العسكري بينها وبين أي دولة ترى في لبنان بلداً مُعرّضاً لمخاطر وإعتداءات إرهابية، ومُهدداً في حدوده من وجود الجماعات الإرهابية. هذه التوليفة السياسية، قد فكّكت كل العراقيل التي كانت توضع أمام الجيش خلال الحكومات السابقة، وتعوق عمله وتمنعه من القيام بواجبه. وانطلاقاً من الدعم السياسي العارم ومن ثقة اللبنانيين، خاض الجيش معركته ضد الارهاب وانتصر عليه من دون الرضوخ إلى شروط أو حتّى الجنوح نحو تسويات لا يكون فيها مكسب وطنيّ جامع. وأقلها، كان خروج العسكريين المخطوفين لدى «التنظيم»، أو معرفة مصيرهم. وقد أكد الجيش منذ اللحظة الأولى لاعلانه نيّة خوضه الحرب، أن وقائع الميدان في الجرود، هي التي ستفرض نفسها خلال المعركة.
من نافل القول، أن قضية الإرهاب والتطرّف اليوم تُعتبر إحدى أبرز المعضلات التي تواجه الدول على اختلافها، ذلك أنّ الإرهاب لم يعد ظاهرة مجرّدة ومنعزلة، بل أضحى مشكلة تستهدف أمن المجتمعات كلّها وحياتها وسكينتها. وفي ما يتعلق بأمن لبنان على وجه التحديد، فإن إنتصار الجيش على هذه الآفة لا يعني على الاطلاق أن البلد أصبح في منأى عن الإرهاب، ولذلك تؤكد مصادر عسكرية لـ «المستقبل»، أن بؤر الإرهاب ما زالت ضمن أولويات واهتمامات المؤسسات الامنية في لبنان لا سيّما مؤسسة الجيش ومديرية المخابرات التي القت خلال اليومين الماضيين، على شخصين بارزين لهما ارتباطات مباشرة بالجماعات الارهابية»، مؤكدة أن «مهمات الجيش لم تنتهِ وأن عملياته الامنية سوف تتواصل في كل مكان يُمكن أن يكون للإرهاب تواجد فيه أو ظهور محاولات لزعزعة الاستقرار في البلد». وتؤكد أنه حتى الساعة «لم يصدر عن الجيش أي توجه أو أي موقف، في ما يتعلق بمخيم عين الحلوة».
وتكشف المصادر أن «الملف الأول الذي تعمل قيادة الجيش على حله، هو إنهاء ملف العسكريين خصوصاً الشق المتعلق بالحمض النووي ريثما يُصار الى تكريمهم على الشكل الذي يستحقونه وهم الذين كانوا في طليعة الشهداء الذين سقطوا على يد الارهاب دفاعاً عن الوطن».
وبالموازاة، فإن الجيش سوف يُعيد تمركزه في الجرود والمناطق الحدودية خصوصاً وأن الوحدات المنتشرة، بحاجة إلى العديد من الأمور اللوجستية. ومن هنا يمكن القول أن هناك العديد من الاستحقاقات التي ما زالت تنتظر الجيش وفي مقدمها تثبيت الامن والاستقرار.