يبدأ رئيس الحكومة سعد الحريري جولةً خليجية قريباً جداً يستهلّها بالسعودية، وهو يُعوّل كثيراً على هذه الجولة بعد اللغط الذي طاوَل علاقتَه بالمملكة في المرحلة الأخيرة، إضافةً إلى هدفه إعادةَ البريق إلى صورته كحليف أوّل وأساسي وموثوق للسعودية ودولِ الخليج في لبنان، في مرحلة التحضير للانتخابات النيابية والنزاع حول مشاريع القوانين الانتخابية.
غياب الحريري سيفرض تجميد النقاش الحاصل للتفاهم على مشروع قانون جديد للانتخاب الذي يراوح مكانه أصلاً منذ مدة غير قصيرة.
خلال الايام الماضية، طلب الحريري من النائب وليد جنبلاط التقدّم خطوةً إلى الامام وإعلان قبولِه مشروع قانون المختلط، ولو من دون الدخول في التفاصيل، بهدف رميِ الكرة في اتّجاه «التيار الوطني الحر» والفريق الشيعي.
فالحريري الواثق بأنّ «حزب الله» لن يقبلَ سوى بالنسبية الكاملة قانوناً بديلاً، أراد من خلال خطوته هذه إزاحة الضغطِ عنه وعن جنبلاط وتوجيهَه في اتّجاه خصومه.
ولم يعُد سرّاً أنّ الحريري ناقشَ طويلاً ومفصّلاً إيجابيات الاقتراع وفق النسبية الصافية وسلبياته، وهو ما دفعَ البعض الى الاعتقاد بأنه يقترب من تبنّي هذا المشروع. لكنّ الحقيقة أنّ حساباته أظهرَت أنّ «حزب الله» سينجح في انتزاع مساحة لا بأس بها من الطائفة السنّية من خلال حلفائه، فيما الساحة الشيعية شِبه مقفلة، ما يجعل اختراقَها بنحوٍ واسع مسألةً شبه مستحيلة.
أضِف الى ذلك أنّ حجم حلفائه على الساحة المسيحية سيتراجع وكذلك على الساحة الدرزية، وفي النتيجة التي توصّلَ إليها أنّ الانتخابات القائمة على مبدأ النسبية الكاملة ستشكّل نهاية حاسمة للتوازنات الحالية وبدءَ مرحلة جديدة تقوم على أنقاض المرحلة السابقة.
لكنّ زعيم تيار «المستقبل» لا يريد أن يقدِم على أيّ خطوة تؤدّي إلى توتير العلاقة بينه وبين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون المتمسّك بالنظام النسبي، على الأقلّ حتى انتهاء الانتخابات النيابية وتكليفه تشكيلَ الحكومة المقبلة.
عندها ربّما قد تختلف حساباته وقد يتغيّر أسلوبه السياسي، خصوصاً أنّ الواقع الاقليمي بدأ يَشهد استفاقةً جديدة للمحور المناوئ لإيران والمراهن على سياسة هجومية للولايات المتحدة الاميركية بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وفي انتظار ذلك الوقت يعمل الحريري على مستويَين:
الأوّل، إمتصاص الضغط القائم في اتّجاهه حول معارضته النسبية وإبداء إيجابية سياسية وإعلامية عبر تبنّي «المختلط»، وإظهار عدم التمسّك بالقانون المعتمد حالياً، وبالتالي تحميل عرقلةِ عدم التوصل الى قانون جديد للفريق المناوئ له.
والثاني، إعادة إحياء التحالف الثلاثي «السرّي»، الذي كان قائماً، والمؤلف منه ومن الرئيس نبيه برّي وجنبلاط، مع توزيع في الأدوار يَسمح له بالبقاء في الخطوط الخلفية لكي لا يصطدم برئيس الجمهورية، على الأقل في المرحلة الراهنة.
ومن هنا، كان موقف جنبلاط المؤيّد للقانون المختلط، ومن هنا أيضاً الكلام المنسوب لبرّي بأنّ عدم التوصّل الى اتفاق على قانون جديد سيضع الجميع امام واقع أن لا مفرّ من تطبيق القانون القائم واحترام مهلِه، أي إجراء الانتخابات النيابية وفق القانون الحالي.
وعدا غياب الحريري في جولته الخليجية، فإنّ ملفّاً آخر سيتقدّم ليشغلَ الساحة اللبنانية وليحجبَ بالتالي كلّ الملفات الاخرى بما فيها ملف قانون الانتخاب، وهو ملف مناقشة الموازنة والرواتب.
فالمرحلة المقبلة ستشهد نقاشاً حامياً حول الضرائب المقترحة لتمويل السلسلة، وهو ما يضع الهيئات النقابية في مواجهة حادّة مع قطاع التجّار وأرباب العمل. مواجهة ستشكّل أولوية على كلّ ما عداها من ملفات، وفي طليعتها ملفّ قانون جديد للانتخابات.
وسيَعني ذلك استهلاكَ الوقت طوال الشهر الجاري، قبل ان ندخل في شهر نيسان وإجازات الأعياد، وبالتالي الاقتراب أكثر فأكثر من نهاية ولاية مجلس النواب ليصبح النقاش دستورياً حول مخاطر مرحلة ما بعد 21 حزيران.
وبدءاً من 21 شهر آذار الجاري، ستبدأ الاجتهادات حول طريقة التعامل مع مخاطر الفراغ الذي سيصبح حتمياً بسبب مهلة الأشهر الثلاثة. ولأنّ الفراغ ممنوع داخلياً وإقليمياً ودولياً كون حصوله سيعني الدخولَ في مرحلة كبيرة عنوانُها الانزلاق في دهليز إعادة تكوين السلطة، وهو ما لا يتوافق بتاتاً مع الظروف الاقليمية والدولية، فإنّ النقاش الجانبي سيتضاعف حول مدة التمديد التي ستُعتمد لتشكّلَ المرحلة الضرورية الفاصلة عن إجراء الانتخابات النيابية الحتميّة، ومعه، من المرجّح أن يترافقَ ذلك مع التعديلات التي ستطاول القانونَ المعمول به حالياً لتشكّل المخرج المعقول لأزمة إنتاج قانون جديد للانتخابات.
في أيّ حال، فإنّ الكواليس السياسية تشهد تصوّرات أوّلية حول خريطة التحالفات الممكن حصولها مع بقاء قانون الانتخابات وفق النظام الأكثري:
على المستوى الدرزي، تحالفات مع وجود اقتناع لدى جنبلاط بالتنازل عن بعض المقاعد لمصلحة «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية».
على المستوى السنّي، سُبل إعادة لملمة القوى السنّية المختلفة مع طلبِ مساعدة المسؤولين السعوديين، فيما الحريري سيَسعى وفي درجة أولى لإعادة صوغ علاقتِه مع الرئيس نجيب ميقاتي للالتفاف على نموّ حالة اللواء أشرف ريفي في طرابلس، إذا ما استمرّ الوضع عدائياً بينه وبين تيار «المستقبل».
وعلى المستوى المسيحي، حول الحصصِ الانتخابية بين «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية»، والتي تشهد تباعداً واضحاً في حسابات الفريقين لها. وأدّى هذا الاختلاف الى حصول اهتزاز حولها، وكذلك حول التعيينات الإدارية ومجالس إدارات المستشفيات.
لكنّ هذا الاختلاف لن يتحوّل خلافاً، أقلّه من الآن وحتى حصول الانتخابات النيابية، ولو أنّ ذلك لن يمنعَ من التنافس الانتخابي بينهما في عددٍ من الدوائر، مع الإشارة الى أنّ الحسابات الانتخابية لكلّ منهما ترتكز على تثبيت نفوذه تمهيداً للانتخابات الرئاسية لاحقاً والتي سيكون مسارها صعباً.