أحصى موقع «بوليتيفاكت» وجود «زيف» أو «زيف فاضح» في سبعين في المئة من تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، لكن الكذب الصريح في أقوال ومواقف السياسيين يبدو أنه المسار الصاعد في عالم اليوم وسط تأييد جمهور عريض.
هذا بعض ما يدل عليه اعتماد قاموس «أوكسفورد» مصطلح «بعد الحقيقة» ككلمة العام 2016 بسبب التزايد السريع في استخدامها من جهة ولاتساع شريحة المقتنعين بأن «الوقائع أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام من الدعوات العاطفية والاعتقادات الشخصية»، وفق تفسير اللجنة التي تبنت ترشيح «بعد الحقيقة». ويبدو قرار اللجنة منسجماً مع موجة «الما بعديات» (ما بعد الحداثة، ما بعد الاستعمار، ما بعد الصناعة..).
الصراع على الحقيقة والوقائع ارتبط دائماً بموقف اجتماعي– سياسي له تاريخ في عالم الأفكار وتطورها، على خلاف ما يُظن به من بداهة. واحد من كبار المخططين الإعلاميين لترامب، جيفري لورد، رأى في الدعوات إلى التدقيق في الوقائع التي أطلقتها المرشحة الديموقراطية السابقة هيلاري كلينتون «افتقاراً إلى التماس (مع الرأي العام) وأمراً نخبوياً إعلامياً». ترجع علاقة الوقائع بالنخبة إلى بداية تنظيم الجبايات الضريبية وإصرار السلطة على معرفة عائداتها المالية (من هنا الاتهام بالنخبوية لمن يشدد على الوقائع)، ثم في ظهور الرأسمالية التي لا تستطيع العمل من دون معرفة دقيقة بالأسواق والمستهلكين، ومنها انتقل تطلب الحقيقة إلى دعاة الحداثة الأوروبية، قبل أن تكسب سمة عصرية عامة. ولا يقتصر معنى «ما بعد» على المرور بحقبة وتجاوزها إلى ما بعدها، بل يصح أيضاً على ظواهر تتميز عن «أصولها» لكنها تشترك معها في السياق العام، مثل سيطرة العلاقات ما بعد الاستعمارية على بلدان لم تخضع لاستعمار مباشر، على سبيل المثال.
لا يعني كل ذلك في شيء مؤيدي ترامب الذين يشبّه الكاتب بانجال ميشرا في «نيويوركر» موقفهم بذاك الذي روّج له جان جاك روسو أثناء خلافه مع فولتير المتهم، من قبل روسو، بالنخبوية. ومقابل تأييد فولتير حملات راعيته الإمبراطورة الروسية كاترين على بولندا وتركيا بذريعة نقل الحداثة إلى هذين البلدين، اقترح روسو في روايته «إميل» وطنية مدنية يكون العداء للأجانب واحداً من أسسها. صدى هذا الكلام في شقيه المناهض للنخبة والمعادي للأجانب يبدو شديد الوضوح في آراء ترامب وأصحابه.
الإقرار بالواقع يرتبط، إذاً، بما يريح الفرد ويتلاءم مع ميوله وليس بحقيقة موضوعية مستقلة. لقد أسمع ترامب جمهوره ما يريد أن يسمعه وأشاد بـ «سيئي التعليم» وسار معه على طريق التقليل من أهمية الحقيقة والأرقام في وقت كانت مؤسسات استطلاع الرأي ووسائل الإعلام الكبرى تشاركه الرقص على جثة الحقيقة فتنشر الطمأنينة إلى فشل المرشح الجمهوري «المهرج والكاذب» وإلى الاعتراض الشديد داخل حزبه على وصوله إلى البيت الأبيض.
كان للمؤسسة السياسية والإعلامية الأميركية نسختها الخاصة من ما «بعد الحقيقة»، لكن المفارقة ظهرت أن «ما بعد حقيقة» ترامب تقبلها جمهور أعرض من تلك التي اعتنقتها المؤسسة.
هل نعيش «بعد الحقيقة» في منطقتنا؟ يكفي هنا التذكير بأن أبسط طلب للتدقيق في كلام الرئيس أو الأمين العام أو الحاكم، يقابله الجمهور بالاستياء حتى لو كان ثمن هذا الكلام دماً ودماراً. «ألا تثق بالزعيم؟» هو الرد العربي التقليدي على كل شك وبحث عن أساس عقلاني للخطابة المرسلة.