ما زال المحللون والمراقبون والديبلوماسيون من مختلف الاتجاهات والمشارب محتارين في تفسير ما جرى خلال الساعات الست الفاصلة بين 15 و16 تموز في تركيا.
يرى البعض من هؤلاء في ما جرى محاولة إنقلابية عادية عبّرت عن سخط قطاعات وازنة في الجيش التركي ولها مؤيّدوها بين الأتراك. ويعزّز نظريتهم بأنّ في تاريخ تركيا الحديث والمعاصر محاولاتُ انقلاب عسكرية بعضها يُكتب له النجاح وبعضها يفشل.
ويؤكدون أنّ نزول الشعب الى الشوارع تلبية لنداء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان من العوامل الحاسمة التي أحبطت محاولة الانقلاب هذه. ولم يستبعد البعض حصول تدخل عسكري خارجي أدّى الى ضرب الانقلابيين الذين كان ضباطهم يتنقلون من منطقة الى أخرى بواسطة مروحيّات تمكنت طائرات «غريبة» من إسقاطها جميعاً.
وبين المحللين والمراقبين والديبلوماسيين مَن يقول إنّ ما جرى كان «فبركة» ذكية لأردوغان الذي أراد اجتثاثَ معارضة متنامية داخل القوات المسلحة وأجهزة الدولة عبر استدراجها الى محاولةٍ إنقلابية تبدو في الساعات الاولى ناجحة لكنها سرعان ما تنهار، فيجهز النظامُ على عشرات الألوف من معارضيه في الجيش وفي الأجهزة الحكومية المختلفة، خصوصاً في القضاء ووزارة الداخلية حيث لمنافسه فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة الأميركية نفوذ كبير.
ويعزّز هؤلاء تحليلاتهم بجملة أسئلة، تبدأ من السبب الذي سمح بموجبها الإنقلابيون لطائرة أردوغان بالانتقال من منتجع مرمرة الى اسطنبول، فضلاً عن السماح لقناة فضائية ببثّ رسالته الى الجمهور عبر «السكايب».
ويقولون إنه لو كان الأمر مجرد محاولة انقلابية لماذا كان القرار الأول لأردوغان هو اعتقال 2700 قاضٍ بتهمة الاشتراك في المحاولة الانقلابية التي لا يشترك عادة فيها خلال ساعاتها الاولى سوى العسكريين؟ ولماذا توجيه هذه الضربة القاضية للجسم القضائي التركي الذي كان طوال السنوات الماضية حجرَ عثرة في وجه مشاريع أردوغان الإمبراطورية؟
بالتأكيد لكلّ فريق من هؤلاء المحللين والمراقبين والديبلوماسيين ما يعزّز وجهة نظره. لكنّ السؤال الأهم اليوم هو عن نتائج هذه المحاولة على صعيد السياستين الداخلية والخارجية لأردوغان.
البعض يعتقد أنّ وقوف جميع الأحزاب المعارضة لأردوغان ضدّ الانقلاب العسكري على رغم علاقتها السيّئة جداً به هو «انتصار للديموقراطية» في تركيا وليس لأردوغان، وأنّ الأخير بات مكبّلاً بهذا التأييد بحيث بات لا يستطيع الإقدام على خطوات مقيِّدة للديموقراطية والحرّيات العامة وحقوق الإنسان، وأنه مضطر للعودة الى نهج المشاركة مع الأحزاب الأخرى بكلّ ما يعنيه ذلك من مراجعاتٍ لسياساته الداخلية والخارجية.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فسواءٌ كانت المحاولة الانقلابية جدّية أو مفبركة فإنها دلالة على وجود أزمة حقيقية تعيشها حكومة أردوغان، خصوصاً بعد فشل كثير من مراهناته في الملفات الخارجية واضطراره الى الاعتذار لبوتين عن إسقاط الطائرة الروسية، وكذلك اضطراره الى عقد الاتفاق المعروف مع إسرائيل، ناهيك عن تصريحاتٍ أدلى بها رئيس وزرائه علي بن يلدريم حول تحسين العلاقات مع سوريا والعراق ومصر، وقد كان لافتاً الدور الذي لعبه يلدريم في مواجهة الانقلابيين منذ اللحظة الأولى وهو دور يرى فيه كثيرون أنه كان «رأس الحربة» في إحباط الانقلاب.
ويعزّز هذا البعض وجهة نظره بالاستدارة التركية الكاملة في ملفات خارجية ولا سيما منها ملف الأزمة السورية، ووقوف موسكو السريع الى جانب أردوغان منذ الساعة الأولى للإنقلاب وهو موقف سينعكس حتماً خلال اللقاء المرتقب بعد ايام بينه وبين نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
وقد لاحظ المراقبون أنّ الموقف الأميركي في بداية المحاولة الانقلابية كان موقفاً رمادياً بحيث لم تُظهر الإدارة الأميركية أيّ تعاطف جدّي مع حليفها التاريخي في أنقرة، وكذلك الاتحاد الأوروبي، ما يعني أنّ واشنطن كانت تريد استخدامَ هذه المحاولة لـ«فرك» أُذُن الرئيس التركي بعد أن أظهر تململاً من السياسة الأميركية في أكثر من قضية.
وإذا صحّت نظرية التفاهم الروسي ـ الأميركي المُحكى عنها فإنّ ما جرى في تركيا سيجعل أردوغان أكثر طواعية للتفاهمات الدولية بعدما حاول أن يلعب دوراً مستقلّاً عنها، خصوصاً في علاقته مع منظمات يعتبرها الروس والأميركيون منظماتٍ إرهابية.
لم تكن المحاولة الانقلابية هذه هي جرس الإنذار الوحيد لأردوغان، بل كانت الانفجارات التي شهدتها المدن التركية وآخرها مطار اسطنبول، والتصدعات التي شهدها حزب «العدالة والتنمية» مع خروج رئيس الوزراء السابق أحمد داود اوغلو ومجموعته من قيادة الحزب والحكم معاً، بالإضافة الى الحرب المستعرة في جنوب شرق تركيا والتي يراها البعض شبيهة بالحرب الدائرة في شمال سوريا وشرقها.
في كلّ الحالات، «الخبر الذي تشتريه اليوم بفلوس يأتيك غداً بالمجّان»، وما على الجميع إلّا التريّث والانتظار.