علّ الأمور في طرابلس… قد انتهت «على خير».
كل الظواهر تدل على أن الجيش قد أحكم الطوق على الأحداث التي اندلعت في عاصمة الشمال، بانسحاب القوى التي اعتدت عليه وعلى المدينة وعلى أبنائها، وفرضت قلة من المسلحين العابثين بأمن البلاد والعباد مجدداً وتكراراً، أمراً واقعاً قاسياً على المدينة المنكوبة فكانت نتيجة المصادمات القتالية التي ملأت الأحياء الشعبية من «طرابلس المحروسة» تفلّت أمني واسع طاولها على مدى بضعة أيام، فأوقع فيها أعداداً من الشهداء، وألحق خراباً ودماراً في الأحياء الشعبية والبيوت والأرزاق، جعل من الطرابلسيين في خضم موجة كبيرة من المهجرين المحليين وحملهم العنف المندلع بما أسماه البعض «العنف المفرط» إلى النجاة بأنفسهم وأولادهم، الى حيثما توفرت لهم فرصة للجّوء والإحتماء من المخاطر المندلعة.
وبالفعل، انتهت الموجة الجديدة من العنف… «على خير»، وأثبتت الأحداث التي أنهاها الجيش اللبناني بمدة قصيرة قياسية وسط توافق شعبي شامل، وفي الطليعة توافق طرابلسي بصدد هذه الأحداث الخطيرة، على جملة من الأمور والثوابت ومن بينها:
– أن العيش الموحد والدولة الواحدة والمؤسسات الرسمية جميعاً وفي طليعتها مؤسسة الجيش اللبناني وقوى الأمن على اختلاف تنوعاتها، تحظى بإجماع وطني على كونها يد الدولة الطائلة والقادرة والتي تضرب بيد اللبنانيين جميعاً بقبضات يد متلاحمة ومتراكمة إنطلاقاً من قناعاتهم وقرارهم الموحد، حيث لا يمكن أن يحل محل الجيش اللبناني، أية ميليشيا كائناً ما كانت أوصافها واتجاهاتها ومواقع مربعاتها الأمنية ولا يمكن أن يجابه عنف المتفلتين من ردع القانون والنظام، خاصة منهم من وضعوا أنفسهم بتصريحاتهم الجامحة وتصرفاتهم الإجرامية الذابحة، في نطاق الإرهاب المفرط، وليس من قادر على لجم مثل هؤلاء المتفلتين، سوى الدولة وجيشها، ولا يمكن للميليشيات المحلية، والأفراد والجماعات المتخوفين، القيام بالتسلح الذاتي والتصرف على أساس: « كل مين إيدو إلو» أن السلطة الطائلة والقادرة والقرار النافذ والمنفذ على الأرض هو قرار الدويلة وليس الدولة. الأمر الذي دفع بالوطن والمواطنين، إلى مشارف المهاوي السحيقة، وجعل من البلاد ومن الدولة أجساماً متحركة بفعل بقايا من أعصاب وأطراف متحركة أشبه برسوم والت ديزني التي تحركها ريشة رسام غريب وقدرة كومبيوتر متخصص من صنع وتفنن خارجي، وهي دولة لم يعد لها رأس ولا أطراف ومجردة عن بدائل تقرر وتنفذ وتحمي البلاد بميثاقها الوطني ودستورها ومؤسساتها وقوانينها وأنظمتها من عبث العابثين وطغيان المتحكمين وجبروت الإرهابيين والتكفيريين. من هنا فإن تأييد الجيش واحتضان مسيرته واجب أقوى من كل الخيارات وفوق كل الإعتبارات، وقد تقيد أهل طرابلس بالكامل الشامل بهذا التأييد، وكان هذا الإحتضان بقناعة ذاتية واضحة، وبحرارة الإيمان بما أقدموا عليه بهذا الصدد بصدق وإخلاص.
– إن هذا التأييد الشامل والمطلق للقوى الشرعية، بتأكده وتزايده وتغلغله أكثر فأكثر بين جموع المواطنين، لم يمنع في السابق ولن يمنع في الحاضر والمستقبل من توجيه النقد إلى الجسم العسكري، كما وإلى أي جسم آخر تابع لأي من مؤسسات الدولة وذلك حيثما تبين للناقدين أن هناك ثغرات ومآخذ، طالما أنها حقيقية تنخر الجسم السليم كما يفعل السوس في الأسنان، وكما تفعل الميكروبات في الأجسام، ومن الواجب بالتالي، أن تلقى العناية والرعاية للمحافظة عليها كتركيبة عسكرية سليمة ومعافاة وطائلة وقادرة ترعى أمن الوطن وأمان المواطن وتحفظ البلاد أرضاً وشعباً ومؤسسات كما ترعى وتصون وجودها ووحدتها ومستقبلها ومصيرها.
من هنا ننوّه بما سبق أن صرح به وزير الداخلية نهاد المشنوق من أقوال ومآخذ تناولت الوضع الأمني بشكل عام وطالب من خلالها إحلال الخطة الأمنية ونشرها في كل مكان من لبنان، والإمتناع في كل الحالات عن الكيل بمكيالين، ورغم وضوح ما أدلى به وما قصده وما تقصد توجيهه من رسائل محددة إلى كل من يناله هذا النقد وهذا التحذير، فإن الوزير المشنوق قد تقصد الإختصار والإمتناع عن الإسترسال نظراً للحالة المأزومة التي يتخبط البلد في أوحالها وتتخبط المنطقة في أخطارها. وبالتالي، فإننا من هذا المنبر الصحفي، وللأسباب نفسها المشار إليها نتبع نفس النهج ونفس الأسلوب، ونرى في أقوال معاليه التي سلفت، إشارة ذات معنى معبر ومغزى كبير، لا بد للجميع من التنبه إليه والتحسب لتطوراته التي طاولت الساحة اللبنانية في أماكنها الحساسة والقابلة بصورة دائمة، للإشتعال الشديد والمديد.
هذا ما حصل في عرسال، وهذا ما حصل في طرابلس. وبالرغم من الانجاز الهام الذي حققه الجيش في كلا الحالتين، فقد أكد ذلك على جملة من الأمور، أهمها التأكيد على قدرة الجيش على التصدي الحاسم والحازم لكل التحديات الخطيرة التي تواجهه وتصادفه، كما أكدت نتائج الصدامات العسكرية الحاصلة في مواجهة الإرهاب والإرهابيين أن هذه الفئة الضالة التي تتذرع بزعم الإستهداء بالدين الإسلامي الحنيف كقناع تنكري يخفي أهدافها الإجرامية المشوّهة والمشبوهة، تحاول جاهدة، التغلغل في هذه البلاد المتسلحة باثقال هامة من التراث الديني والحضاري والثقافي الأصيل، وبامتدادات مؤثرة من الروح الوطنية التي عانت كثيرا حتى تشكلت أسس وحدتها ودولتها وأنظمتها، وفي الطليعة النظام الديمقراطي بكل حرياته وقواعده ومؤسساته، وها هي القوى التكفيرية اليوم تسعى لتسريب أفكارها وقواها ومؤامراتها وغاياتها في مناسبات عديدة، تمثل قديمها في أحداث مخيم نهر البارد وصيدا، وحديثها في أحداث البقاع والشمال، وثبت من خلال المواقع المذكورة أنه ليس للقوى التكفيرية والإرهابية والإجرامية أية بيئات حاضنة وبالتحديد في البيئات السنية التي تجمع بزعاماتها السياسية وفي طليعتها تيار المستقبل وقائده الشيخ سعد الحريري وقيادتها الدينية وفي طليعتها دار الفتوى المتمثلة حاليا بمفتٍ جديد أثبت خلال المدة القصيرة التي قضاها حتى الآن في موقعه، أنه طليعة من طلائع الإسلام السمح والمعتدل وركيزة حكيمة وواعية سيكون لها أثرها الفاعل في تعزيز روح الوحدة الوطنية والعيش المشترك وممارسات التسامح والإعتدال.
ويبقى علينا جميعا أن نعيد النظر في أوضاع المناطق المشار إليها في هذا التعليق، وهي مناطق تشكو منذ عقود عديدة من أحوالها الاقتصادية والمعيشية والإجتماعية السيئة، وهي لا تنفك تطالب دولتها ومسؤوليها وزعماءها بالإهتمام بشؤونها ورفع المظالم والمعاناة المعيشية عنها، وسد الثغرات الهائلة التي تطاول حياتها في أكثر من مجال وأكثر من موقع، الأمر الذي يجعلها بصورة دائمة معرضة لشتى أنواع المطامع والمطامح التي قد تفلح يوماً ما (وربما يكون هذا اليوم قريباً)، في استغلال هذا الواقع السيىء لتنفذ منه إلى أوضاع قد تسبب لهذا الوطن كثيراً من الخلل والمخاطر الجدية.
المحامي محمد أمين الداعوق