ليس للوحشية حدود حين تكون ممارستها مغطاة بايديولوجيا دينية أو دهرية. فلا مجزرة باريس مجرد انتقام متأخر من أسرة الصحيفة الساخرة شارلي ايبدو التي أعادت قبل سنوات نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة الى الاسلام والنبي العربي الكريم. ولا الصدمة التي أحدثتها في العالم كله كانت خارج أهداف الارهابيين الذين يقتلون بدم بارد لإثارة أكبر قدر من الذعر، ويسخرون من الإدانات، وخصوصاً تلك التي تخرج من العالم الاسلامي مستنكرة أعمالهم المسيئة والمشوهة للاسلام.
ذلك ان المجزرة أعادت التذكير بكل الكوابيس الواقعية والخيالية. أما الكوابيس الواقعية، فإنها الخوف من عودة ١٥ ألف متطرف أوروبي هاجروا للقتال مع داعش في سوريا والعراق الى اوروبا لممارسة الارهاب فيها بعد الخبرة التي اكتسبوها. وأما الكوابيس الخيالية، فإنها التخوف من أن يتولى المسلمون السلطة في بلدان أوروبية مثل فرنسا وألمانيا بعد عقدين من السنين. والقاسم المشترك بين الكوابيس هو ظهور أزمة هوية في أكثر من بلد أوروبي بعد نحو قرنين من الدولة – الأمة: فمن جهة صعود اليمين الوطني المتطرف المصاب بعقدة الاسلاموفوبيا. ومن جهة أخرى صعود الاسلام السياسي المتطرف الرافض للوطنية والحدود بين الدول.
وكالعادة، فإن ردود الفعل على المجزرة أظهرت أربعة توجهات: أولها، وهو الغالب طبعاً، التعاطف مع الضحايا والمطالبة بانزال أشد العقوبات بالمجرمين والدعوة الى اكمال الحرب الأمنية والعسكرية على الارهاب بحرب فكرية على الأفكار المتطرفة التكفيرية. وثانيها محاولة البعض تبرير المجزرة بأنها رد على ممارسات وسياسات أميركية وأوروبية في المنطقة. وثالثها مسارعة البعض، مع ان السلطات الفرنسية كشفت بسرعة هوية الارهابيين، الى تكرار نظرية المؤامرة، والايحاء ان ما حدث هو من تخطيط اجهزة رسمية لدفع الرأي العام الى المطالبة بوقف الهجرة وقبول التشدد من خارج القانون حتى مع الذين ولدوا في بلدان اوروبا من ابناء الجاليات ونالوا جنسية البلد. والرابع هو تذكير المتطرفين بأن عملياتهم الارهابية تؤذي المسلمين في اوروبا وتخربط حياتهم وتدفع المزيد من الاوروبيين الى اليمين المتطرف الكاره للمسلمين.
وليس تبرير الارهاب واللجوء الى نظرية المؤامرة سوى خداع للنفس. أما الأذى الذي يلحق بالمسلمين في اوروبا، فإنه آخر ما يردع المتطرفين. اذ ما يخططون له هو منع اندماج المسلمين في اوروبا والدفع نحو الانقسام العميق. وما يحلمون به هو ان يحكموا اوروبا ضمن دولة الخلافة.
والحرب معقدة وطويلة. ومهما يكن عدد الضحايا الاوروبية، فإن شعوب المنطقة، هي الضحايا الأساسية. وأكبر عقاب لنا هو الحكم علينا بالتخلف المؤبد ثم دفعنا عصوراً الى الوراء إن نجونا من الذبح باسم الله.