IMLebanon

ما بعد اتفاق باريس حول المناخ

استفاقة العالم على مخاطر التغيّر المناخي ظهرت كأنها وليدة الساعة، والواقع ان التدهور كان على تعاظم منذ التسعينات وتسارع انتاج الشركات العالمية في الصين واندفاع المسؤولين الصينيين لتوفير الكهرباء من معامل تعتمد الفحم الحجري وانجاز الطرق الواسعة لاستيعاب حركة انتقال الافراد الى اعمالهم والتلامذة الى مدارسهم والمنتجات الصناعية الى المرافئ الجديدة للتصدير الى العالم الصناعي.

التلوث المتعاظم ساهم في الفيضانات والتصحر والانهيارات وتردي صحة البشر وازدياد معدلات حرارة المناخ بسرعة وانهيار جبال الجليد وارتفاع مستويات البحار، وغرق بعض المدن مثل مدينة شيناي في الهند بسكانها البالغ عددهم خمسة ملايين وقد توفي منهم أكثر من مئتين نتيجة الفيضانات.

بعد أقل من أسبوع على اعلان التوصل الى اتفاق لحصر ارتفاع حرارة المناخ دون 1٫5 درجة حتى سنة 2030، كانت العاصمة الصينية تواجه مشكلة بيئية صحية واسعة النطاق.

يوم الجمعة تاريخ 2015/12/18 أعلنت السلطات الصينية المختصة بالتلوث وأخطاره ان اخطار تنشق الهواء في بيجينغ، وعلى امتداد مساحة تبلغ 12 الف كيلومتر مربع، تهدد صحة المواطنين. ورفعت السلطات مستوى الحذر الى أعلى الدرجات التي تفرض الوقاية من اخطار مؤكدة على جهاز التنفس لدى جميع المواطنين، فأقفلت المدارس ثلاثة ايام، وحصرت التمارين الرياضية داخل الابنية العازلة للتلوث، ومنع استعمال السيارات (ما عدا السيارات الرسمية وسيارات الاسعاف والاطفاء)، وأوقفت المصانع عن الانتاج، وعلقت اعمال البناء. وكان هذا الانذار هو الثاني من نوعه في غضون أسبوع، ولا حاجة الى التوسع في مفاعيل الاضرار المخيفة بالصحة والاقتصاد لحصر المواطنين وراء الابواب وألواح الزجاج العازلة.

لقد عددنا في مقال سابق بعض الاضرار التي طاولت أكثر من ولاية في الولايات المتحدة، ومنطقة البحيرات شمال بريطانيا، وفيضانات في الصين الخ، لكن ارتفاع نسبة التلوث المناخي التي فرضت على سكان العاصمة الصينية اتقاء اضرار الطبيعة في منازلهم أمر يبرز الاخطار التي قد تتوسع يوماً بعد يوم.

اسباب التلوث البيئي والمناخي باتت معروفة والدراسات عنها تنوعت، لكن الاخطار التي كانت تبرر بين الحين والآخر لم تدفع المعنيين الى عقد اجتماع خطير كالذي تحقق في باريس واستمر عشرة ايام وأدى الى اتفاق عام على حصر ارتفاع حرارة الجو بنسبة 1,5 درجة حتى سنة 2030، ومن ثم تجميد الارتفاع كلياً ثم سنة 2050، وتخصيص 100 مليار دولار لتنشيط مصادر الطاقة البديلة حتى سنة 2020، وبعد ذلك تخصيص 100 مليار دولار سنويًا لتحقيق الهدف المعلن سنة 2050.

وتتمثل المساعي المطلوبة في المقام الاول في الاستعاضة عن النفط والفحم الحجري كمصدرين للطاقة، واحلال الطاقة البديلة محلهما وأهمها ما يمكن تحصيله من الرياح، والواح اختزام الطاقة الشمسية، وربما توسيع مفاعيل ابتكار الماني للاستفادة من الطاقة النووية بصورة غير مضرة بالبيئة وتسمح بكفاية حاجات الكهرباء للمنازل والصناعات عن سبيل ابتكارات تكنولوجية. والمانيا تسمح بمضاعفة الاستفادة من المفاعلات النووية دون اية اضرار جانبية، مع العلم أنها كانت قد قررت الاستغناء عن المفاعلات النووية الكهربائية سنة 2030 وها هي بقدراتها التكنولوجية الخارقة توفر ربما حلاً عن سبيل تطبيق تقنيات تسمح باستفادة قصوى من المفاعلات دون اضرار أو اخطار بيئية أو سواها.

السياسات الواجب اتباعها، إذا التزمت، تؤدي تدريجاً الى الاستغناء عن مشتقات النفط سواء في انتاج الكهرباء او الاستعمال في مختلف وسائل النقل جواً وبراً وبحراً. ومهما توسعت جهود تطوير مصادر الطاقة البديلة لا يمكن توقع احلالها محل مشتقات النفط والغاز قبل انقضاء عقود، ولعل اختيار استهداف ضبط التلوث سنة 2050 يعبر عن تقدير علماء البلدان الصناعية والنامية لما هو مطلوب من اقرار سياسات بديلة وتعميم الطاقة الهوائية والطاقة من الواح اختزان الطاقة الشمسية، وهذه باتت كلفة انتاجها أقل بكثير من السابق نتيجة اكتشافات ووسائل انتاج أتقنها الصينيون. وربما ساهم الصينيون في ضبط التلوث المناخي أكثر من غيرهم لتمكنهم من صناعة الالواح الزجاجية الاختزانية كما بفعل قدراتهم المالية على المساهمة في تأمين الموارد المالية لانجاز البرامج المطلوبة وخصوصاً في البلدان النامية التي تحتاج الى الموارد المالية والخبرات أكثر من البلدان الصناعية. وقد يقول البعض إن هذا بعض الثمن الذي على الصين تحمله لانها البلد الثاني تلويثًا للبيئة في العالم بعد الولايات المتحدة، واكثر من البلد الثالث الهند.

التلوث بدأ يرتفع معدله منذ التسعينات وبعد تحول العديد من الصناعات الالكترونية والمعدنية (الفولاذ والألومينيوم) الى الصين واعتماد الصين سياسات انمائية متسارعة رافقها توسيع الطرق والمصانع، وخصوصاً معامل انتاج الكهرباء على الفحم، والصين تمثل نسبة 66 في المئة عالميًا من انتاج الكهرباء بواسطة الفحم الحجري، لكن تطورها على هذا النحو لا تتحمل اثقاله البيئية أو النسبة الكبرى منها وحدها.

فالصين وفدت اليها، للاستفادة من انخفاض الاجور والتزام العمال عملهم بدقة، كبرى الشركات العالمية سواء منها شركات صناعة السيارات، بما فيها الالمانية، والاميركية، واليابانية، والبريطانية، وصناعة الصلب ومن أصحابها شركات أميركية، وهندية، وأسوجية. لذا فإن التلوث الآتي من الصين كان في المقام الاول من الشركات الكبرى لتصنيع السيارات، والكيماويات، والطائرات، والالكترونيات الخ، وحيث ان صادرات الصين باتت بالحجم ثانية كبرى الصادرات في العالم لبضائع مطلوبة عالمياً، يمكن القول إن مسؤولية التلوث تقع على الصين وعلى بلدان اسواق الاستيراد منها. طبعًا هذا النوع من التحليل لا يستذوقه اصحاب الشركات الكبرى في العالم.

اذا نظرنا الى التأثير الاقتصادي لبرامج ضبط التلوث المناخي عالميًا، ندرك مباشرة ان المطلوب كبح الاستهلاك المستشري وخفض انتاج السيارات، مع زيادة السيارات الهجّينة أو الكهربائية وتوسيع الاعتماد على وسائل النقل العام، والتركيز على الصناعات الصغيرة المناطقية، وايلاء التعليم اهمية كبيرة كما الخدمات الصحية، والسكن اللائق في مبان تتمتع بشروط المحافظة على البيئة.

كل هذه التوجهات تفيد ان معدلات النمو ستنخفض وخصوصاً في البلدان النامية التي تقصدها الشركات الكبرى للانتفاع من تدني الاجور واهمال شروط المحافظة على البيئة، وتالياً ستحتاج الدول النامية الى القسم الاكبر من المعونات التي يفترض ان تتوافر من البلدان الصناعية. واذا نظرنا الى هذه البلدان نرى ان معظمها يشكو من عجز في حسابات الميزانية ومديونية عالية ومعدلات نمو منخفضة، ولهذا السبب قد تكون الصين، بمواردها المالية الضخمة التي تقرب من 40 في المئة من الاحتياط العالمي، مصدر المعونات الاول. ولعل انخفاض أسعار النفط بشكل دراماتيكي يؤدي الى تحقيق فوائض لدى البلدان الصناعية اذا رفعت رسوم الاستهلاك حتى بنسبة أدنى من انخفاض أسعار النفط، وهكذا تتحول ميزانياتها الى فوائض.

منطقتنا، أي بلدان الشرق الاوسط، ستعاني تدريجاً انخفاض مداخيل النفط وانحسار فرص العمل لمواطني البلدان غير النفطية، وسيتوجب على قياداتها اقرار سياسات احترازية بالنسبة الى استهلاك الطاقة، سواء للتبريد أو الانتقال، وسوف ترتفع تكاليف المياه التي تستهلك بكثرة. كما ان على البلدان المعنية فرض ضرائب معقولة على المداخيل والارباح والاستهلاك، وتقليم اجهزتها الادارية بحيث لا يعود كل مواطن يطلب العمل يتوجه الى دوائر الدولة. وقد يكون من حسن حظ الدول النفطية وغير النفطية الشرق الأوسطية انها تتمتع بفرص واسعة للاستفادة من الطاقة الشمسية، ومصادر الطاقة البديلة، وربما في قبرص دليل على ما نقول على الصعيدين، وهي من افقر دول المنطقة بالثروات الطبيعية.

عهد الانفلاش انقضى وبدأ عهد العقلنة، بما في ذلك ضبط الفساد.