لم تكن مفاجِئةً لهجة الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله بعد عملية شبعا. وثمَّة من يقول: إنتظِروا «حزب الله» آخر!
لن يردَّ الإسرائيليون على عملية شبعا كما فعلوا في تمّوز 2006، عندما دمّروا البنية التحتية في لبنان، فظروفُهم لا تسمح بذلك. وكذلك، لم تسمح ظروف «حزب الله» بمغامرة أكبر من شبعا. فالوقت، بالنسبة إليه، ليس للتفجير بل للتهدئة والحوار واستيعاب المعطيات التي تفرزها الحرب السورية. لكنّ عملية شبعا توازي في أهمّيتها حربَ 2006، كمحطّة تَحَوُّل سياسية.
كان «حزب الله» خارجاً من نكسةٍ في 2005، مع خروج السوريّين من لبنان، وانتقال السلطة إلى «14 آذار». وكان الضغط الدولي قويّاً على «الحزب»، خصوصاً في ملفّات الاغتيال ومحاولات الاغتيال، فحاولَ الانحناءَ للعاصفة بإعلان استعداده للنقاش، حتى في شأن السلاح. ولهذا نشَأ الحوار الذي رعاه الرئيس نبيه برّي.
وعندما انفجرَت حرب 2006، لم يُدمَّر شيء مهمّ مِن بنية «حزب الله» العسكرية، وإنّما دُمِّر لبنان، فعادت بنيته التحتية عشرات السنين إلى الوراء، فيما دعَّمَ «الحزب» ترسانتَه العسكرية بصواريخ أكثر تطوّراً. وأعلن انتصاره على إسرائيل، و»خوَّن» السلطة الممثَّلة بـ»14 آذار»، معتبِراً أنّ ما حصلَ كان هزيمةً لإسرائيل ولهذا الفريق.
وبدءاً من تلك اللحظة، انتقلَ «الحزب» إلى الهجوم، وتجاوزَ قطوع الاتّهامات بأنّه دولةٌ ضمن الدولة، وتجاوزَ الدعوة إلى تسليم السلاح وقرار الحرب والسِلم. فهو مقاومةٌ تستمدّ مشروعيتَها من تضحياتها… ومن اعتراف البيانات الوزارية بها. وكانت محطة تمّوز 2006 مفصلية لإعادة المبادرة إلى «الحزب».
واليوم، هناك مَن يتوقّع أن تكون لعملية شبعا مفاعيل 2006 أيضاً. فـ»الحزب» الذي قدَّم الشهداء ضدّ إسرائيل لن يرضى بأن «يزايد» عليه أحد. وفي اعتراف الخصوم، هو نفَّذ عملية «نظيفة» عسكرياً، في الزمان والمكان، ولم يعرِّض البلد للمغامرات. وهذا المنطق يوازي المنطقَ الذي اعتمدَه «الحزب» في 2006، أي منطق الانتصار، وهو ما سيمنح «الحزب» موقعاً قويّاً في مواجهة خصومه الداخليّين.
وسيُحاور «الحزب» خصومَه الداخليين، مستقوياً بكونِه كرَّسَ نفسَه في موقع إستراتيجي إقليمي مميَّز. فهو أثبَتَ جدارته بتحقيق التوازن الإقليمي بين إسرائيل وإيران، أي بتمكين إيران من أن تكون على تماسٍ جغرافي مع إسرائيل.
فإسرائيل اغتالت مسؤولين عسكريين إيرانيين في القنيطرة السورية، ربّما لإفهام طهران بأنّ خَرقها لقواعد الاشتباك ممنوع. فردَّ «الحزب»، وانتقمَ لإيران، من دون أن يخرقَ قواعد الاشتباك المتمثلة بالقرار 1701. فمزارع شبعا لا يشملها انتشار «اليونيفيل» وهي خارج الخط الأزرق. وفي المنظور الدولي هي ليست لبنانية بل سوريّة.
لذلك، يتوقّع البعض أن يستثمرَ «حزب الله» عملية شبعا داخليّاً، إلى الحدّ الأقصى، لتكون منطلقاً إلى المزيد من المكاسب. ففي 2006، هو استثمرَ الحرب لينتزع من خصومه ذريعة المطالبة بتسليم السلاح وقرار الحرب. وبعد شبعا، سينتزع منهم ذريعة المطالبة بمغادرة سوريا. فهو دفعَ في سوريا (القنيطرة) دماً في مواجهة إسرائيل. وهو من مزارع شبعا (أي الأراضي السورية وفقاً لمنطوق الأمم المتحدة) نفّذ عملية المقاومة.
وأساساً، كان خصوم «الحزب» قد جلسوا معه إلى الطاولة، قبل عملية شبعا، متجاوزين السلاحَ والتورُّط في سوريا، وأخذوا عنه مهمّة عسكرية شائكة كانت محصورة به، وهي مواجهة التنظيمات الإرهابية التي قضَّت مضجعَه.
وبعد العملية، سيكون أمام هؤلاء أن يغطّوا تدخّلَه العسكري في سوريا، باعتباره جزءاً من العمل المقاوم. وسيقول «الحزب»: «أليسَ الأفضل أن أنتقل إلى سوريا لمواجهة إسرائيل بدلاً من توريط لبنان»؟ وكان «الحزب» طرحَ سابقاً فكرة المقاومة من الجولان، عندما ازدادت المطالبات بانسحابه من سوريا.
سيتشدَّد «حزب الله» بعد اليوم. ويقول المطلعون: إنّه سيُظهِر لخصومه «حزب الله» آخر إذا حاوَلوا مفاتحتَه في ملفَّي السلاح وسوريا. وفي المقابل، سينزلق هؤلاء خطوةً أخرى، من السكوت على السلاح والتورُّط في سوريا، إلى القبول بهما أو تغطيتهما شرعيّاً.
أمّا الهدف المقبل فهو، على الأرجح، دفع لبنان الرسمي إلى مدّ الجسور مع نظام الرئيس بشّار الأسد. وهذه خطوة أخرى تستلزم خطّة أخرى. وكلّ شيء مرهون بوقتِه.