انحياز السيد حسن نصرالله لخياره الأخلاقي السياسي القاضي بترشيح الجنرال ميشال عون، كان طبيعياً. العلاقة بين الرجلين مصونة بالصدق والوفاء. لم يكن الأمر جديداً. في المفاصل الحساسة والحاسمة، تُمتحن المعادن. مرّ الرجلان بامتحانات شاهقة ومضنية وخطرة. كانا ثابتين جداً. الظهر محميّ ولا خناجر في الظهر ولا حجج للتبرير… قد يكون الأمر طوباوياً جداً، وغير واقعي أبداً، ولكنه كذلك. وتلك الفضيلة، مشكلة في لبنان، صعبة المراس على طبقة سياسية تحتفل بانقلاباتها على حلفائها، في وضح النهار. وهذه مشكلة في لبنان، إنما، وللأسف الشديد، لا تستقيم السياسة فيه إلا بممارسة اعوجاجها. تناقض؟ طبعاً! ولكن لبنان النقائض والنقائص، هو «الحي الباقي» في حالة مواتنا الوطني والإنساني والأخلاقي.
ترشيح سمير جعجع للجنرال عون، وليد حاجة. اقتضى الهروب من المرشح «القوي» سليمان فرنجية، «العدو المزمن»، بأسباب القتل والدم، إلى ترشيح عون. الرجلان، عاشا حروباً، بأسلوب «إما قاتل أو مقتول». العنوان يكفي: «حرب إلغاء». لا رغبة لديّ في نبش الماضي. كراهيتي فائضة لفصول الدم والغدر والقتل والداعشية اللبنانية. نترك ذلك الماضي. نغلق عليه الأبواب. كي لا يكون ساحة لتصفية حروب كلامية. الرجلان، جعجع وعون، كانا خصمَين دائماً، حتى لحظة ترشيح فرنجية: «العدو من أمامكم والعدو من ورائكم فمن أين المفرّ؟». اختار جعجع، في لحظة سياسية نموذجية، خصمه الانتخابي مرشحاً له في معركة الرئاسة. انقلاب غير مسبوق. كاد يصبح جعجع الأب الروحي لعون ويخاطب نصرالله بلغة الإحراج: «أين أنت؟… لماذا لم تنطق بعد؟.. أين حلفاؤك…؟» إلى آخر ما يجعل الانقلاب حدثاً عادياً، مفتوحاً على المستقبل، وغير متصل بالماضي. كأن جعجع حاول القفز على ماضيين اثنين: ماضيه مع آل فرنجية وماضيه مع الجنرال، مجدّداً معركته مع قرين عون الروحي والسياسي، حسن نصرالله…
في خطاب السيد، خان فأله. الأصيلان باقيان، و «الطارئون نواقص وزوائد». لا وجه شبه بين تأييد «السيد» لترشيح عون واستعجال احتفال جعجع بترشيح الجنرال. السيد وجعجع من عالمَيْن مختلفَيْن… شتَّان ما بينهما.
لكن كل هذا الكلام لا علاقة له بالسياسة وبمآلات الرئاسة المؤجلة.
ترشيح الرئيس سعد الحريري لفرنجية، انقلاب سريّ. انقلاب جعجع كان احتفالياً بمشهدية مُتقنة الصنع. انقلاب الحريري ظل أياماً طي الكتمان، ثم ارتقى إلى مرتبة الالتباس. ثم جاء اليقين بعد الشك، وعدم التصديق، ليضع فرنجية على قاب قوسين من بعبدا. اعتكر مزاج «الفسطاطين»: فسطاط «14 آذار» وفسطاط «8 آذار». وهو اعتكار مبرَّر. الحريري ينقلب على مرشحّه جعجع من دون أن يُعلمه. خنجر في ظهر الحليف، خنجر آخر، أن المرشح البديل من عتاة الأعداء. كيف ذلك؟ لكنه حصل كذلك بالتمام! اعتكر مزاج الجنرال: هذا انقلاب من الحليف على المرشح، الأزلي والأبدي. ارتبك فرنجية. رِجل في البور وأخرى في الفلاحة. هو من صلب «8 آذار»، وحليف نصرالله أولاً والجنرال ثانياً، و «الأسد فوق الجميع». خلطة غير مفهومة. غبش كثير. يكاد يفرط عقد الصداقة والتحالف معاً. انفرط بعد أول لقاء بين الرجلين، بات فرنجية، انتخابياً، بالنسبة للجنرال، في مقام جعجع وأشدّ وطأة. ولا لزوم لشرح ما بات مفهوماً من الفوضى المجانية المحبطة، التي أحدثها انقلاب الحريري على جعجع وانقلاب فرنجية بالمعية على عون. الأخير اعتصم بالصمت، كما اعتصم بالترشيح: قال لفرنجية، فلنبدأ من الآخر: «أنا مرشح دائم»، كأنه كان يقول له، لا وجود لخطة باء ولا لمن يشبهها. أنا أو لا أحد. وأقفل باب التفاهم. أما عن الفوضى في فريق «14 آذار»، فكانت بحاجة إلى نصيحة «ملكية»، فامتثل الجميع وسادت الطاعة لولي الأمر البعيد.
طبعاً، هذا الانقلاب يأتي من ضمن المنهاج المعتمد في الحياة السياسية، حيث «الممنوعات تتيح المحظورات وتشجع عليها» (اعتماد هذه الصياغة في الجملة مقصود). فالغاية تبرِّر الوسيلة، والانقلابات تتعاقب، وليست في حاجة في كل مرة إلى «القمصان السود».
انحياز «السيد» لعون منطقي وأخلاقي وسياسي. هذا أمر طارئ على الحياة السياسية. كيف نصرفه؟ كيف نتدبّره عملياً؟ هذا موقف يقفل أبواب بعبدا ويترك لبنان في الفراغ. متعب ومرهق ومدنق استمرار الكلام حول الرئاسة بعد اليوم. يلزم التعامل مع كل ما له علاقة بالاستحقاق الرئاسي في آخر نشرة الأخبار، في باب الوفيات، في باب أخبار متفرقة، في «جعبة السفير»، في لا مكان.
الأسلوب الأخلاقي ـ السياسي المتّسم بالصدق والوفاء، يعطّل بالكامل إمكانية وقف هرهرة الدولة ومؤسساتها.
في الفراغ القائم، لم تتضرر الطبقة السياسية الحاكمة، المالكة سعيداً منذ ما بعد «اتفاق الطائف». الناس، الناس فقط، في محنة خانقة. الخدمات الضرورية الحياتية تنعدم. «أكلتنا الزبالة. طحننا اليأس. أفلستنا روحياً ومادياً»، وبات اللبناني «القحّ»، يلعن الساعة ويفتش عن «مرقد عنزته» في المنافي التي باتت تضيق صدورها باستضافة «معذَّبي الأرض»، حروباً وسياسة.
الفراغ، أفرغ أرواح اللبنانيين عن الوطنية. هم في الدرك الأسفل من واجب تحمل المسؤولية. مؤمنون، إيماناً مبرماً وغليظاً، أن لا خلاص البتة، وأن الجحيم اللبناني قد يستدعي «الجحيم السوري واليمني والعراقي والداعشي إلى لبنان». شعب طافش، يمكن وضعه في خانة «التكفير» بجدارة وعلنية. شعب كفر بأرباب السياسة والمال والقضاء والطوائف والمذاهب، ولم يعد مؤمناً بقضية.
مدرسة الأخلاق في السياسة مغلوب على أمرها. وأصحاب أولي الأمر غالبون في السياسة.
هل المطلوب الانقلاب على الذات أم مصارحة الحليف عون؟ طبعاً، الانقلاب على النهج الأخلاقي غير جائز. هذا نهج يُصان ويبشَّر به. ولكنه ليس الغالب. غير أن هذا النهج ليس مقفلاً نهائياً. لقد وفى «حزب الله» بتعهداته، فماذا يضير الجنرال، المصرّ على أبدية ترشيحه الذي لا يحظى بالأكثرية المطلوبة، أن يبادر. لم يحظ بأكثرية من قبل، ويصعب نيلها في ما بعد.
أليس مطلوباً من «الجنرال» أن يفتح الطريق لسواه، مختاراً مرشحه الذي يكون على وفاق وتفاهم سياسي معه؟
إنها خطوة مطلوبة. ولكنها الخطوة المستحيلة، إلا إذا… كان الوفاء متبادَلاً. البلد يحتاج إلى أوفيائه، ولو بالواسطة، وإلى شياطينه كذلك.
ليت ولعلّ، ولكن، «ما كل ما يتمنّى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن».