لا تقتصر مفاعيل رسائل التبادل الصاروخي بين سوريا وإسرائيل على كونها مجرد تصدٍّ سوريّ لطائرات إسرائيلية معادية، ولا تقاس مفاعيلها ــ بلحاظ المرحلة الحالية والمعادلات التي تحكمها ــ بعدد الصواريخ التي أطلقها كل منهما ولا بالنتائج العسكرية التي ترتّبت عليها، بل هي بمعايير محدَّدة رسالة سورية عملانية، وردّ إسرائيلي بنفس اللغة والحدّة، تعمَّد كلّ من الطرفين إيصالها الى الآخر، ولكل من يعنيه الأمر. والقدر المتيقن لهذه الرسالة أنها حدث عسكري يحمل أكثر من بعد يتصل بطبيعة الاستهداف ومكانه وتوقيته، وبأكثر من سياق إقليمي ودولي.
أياً كانت المفاعيل العسكرية لاستهداف صاروخ أرض ــ جو سوري لطائرات حربية إسرائيلية تحلّق فوق لبنان، وما سيليه لاحقاً من خطوات عملانية من قبل الطرفين (سوريا والعدو)، فالمؤكد أن أصل قرار القيادة السورية بإطلاق الصاروخ المضادة للطائرات في الوقت الذي كانت الطائرات الاسرائيلية تحلق فوق الاراضي اللبنانية، يعني أن دمشق أرادت توجيه رسالة باتت ملحّة الى تل أبيب. ويعود ذلك الى أن العدو بدأ مرحلة جديدة من الاعتداءات، مع غارته الأخيرة قبل أكثر من شهر في منطقة حماة، إذ شكلت تلك الضربة الجوية ارتقاءً في سقف الاعتداءات الاسرائيلية عبر محاولة توسيع نطاقها وفرضها كجزء من المعادلة السائدة في مقابل الانتصارات التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه في مواجهة الجماعات المسلحة والارهابية. وهو ما لفت اليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عندما تحدث عن الخطوط الحمراء التي حددها في مرحلة ما بعد استنفاد الرهانات الاسرائيلية في الساحة السورية…
في تقديرات العدو أن الرسالة السورية تزامنت مع زيارة وزير الدفاع الروسي لإسرائيل
أتت الرسالة السورية في ظل الأجواء الإقليمية الملبّدة، وبعد مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب التهويلية التي تناول فيها مواجهة النفوذ الايراني، وهو ما يعني إسرائيلياً أكثر من ضوء أخضر أميركي لمواصلة ــ وتصعيد ــ السياسة العدوانية في سوريا. في المقابل، يبدو أن دمشق أرادت من رسالتها القول إن الساحة السورية تنطوي على مفاجآت قد لا تكون في حساب صانع القرار في تل أبيب.
في السياق نفسه، المؤكد أن الرسالة السورية ستعزز الانطباعات والمخاوف الاسرائيلية من مفاعيل انتصارات محور المقاومة على المعادلات التي تحكم حركة الصراع مع إسرائيل، باعتبار أن ما جرى يجسد مستوى متقدماً من شجاعة اتخاذ القرار السوري. وهو ما يرى فيه العدو مؤشراً على صحة تقديراته إزاء التداعيات التي ستترتب على تكريس انتصار محور المقاومة في سوريا، بعد استكمال الانتصار على الخطر التكفيري. في نفسه السياق، يؤكد الاستهداف السوري للطائرات الاسرائيلية المفهوم العملاني الذي أعلنه وزير الأمن الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان قبل أيام، بأن أي حرب على الجبهة الشمالية ستكون على الجبهتين السورية واللبنانية، وينطوي ذلك على إقرار إسرائيلي رسمي بأنه رغم الاستنزاف الذي تعرض له الجيش السوري، إلا أن ذلك لم يسلبه القدرة على خوض مثل هذه المواجهة، خاصة أن الرد الاساسي السوري سيتمحور بشكل جوهري على الصليات الصاروخية التي قد تستهدف العمق الاسرائيلي.
مع ذلك، تنبع قوة الرسالة السورية أيضاً، في الوعي الاسرائيلي، من أن الصاروخ استهدف الطائرات الاسرائيلية وهي تحلق فوق الاجواء اللبنانية، بمعنى أنها لم تخرق الاجواء السورية، ولم تنفذ اعتداءً جديداً… ويعني ذلك أيضاً، لجهة مضمون الرسالة السورية، أن المجال الحيوي السوري يمتد الى الاجواء اللبنانية، وبالتالي يمكن سوريا، ومن موقع الدفاع عن نفسها، تحت عناوين وقائية واستباقية، فضلاً عن الرد، أن تهدد تحليق الطائرات الاسرائيلية فوق لبنان، مع ما يترتب على ذلك من خسائر استخبارية هائلة لإسرائيل التي تعتمد بشكل رئيسي على طائرات سلاح الجو لهذه المهمة. وهكذا تعني الخطوة السورية الدفاعية، بمعايير إسرائيلية، نوعاً من المبادرة العملانية.
الدلالة الأسرع حضوراً في تقديرات المؤسسة الاسرائيلية أن الرسالة السورية تزامنت مع زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو لإسرائيل. وهو ما ستضعه تل أبيب ضمن احتمالين؛ الاول أن يكون ما جرى بمعزل عن معرفة موسكو ورضاها، والثاني أن يكون قد تم ذلك بالتنسيق مع الروس. في الحالة الاولى، ستفهم منه إسرائيل أن رهانها على روسيا في ضبط ردود الفعل السورية ليس في محله. وهو ما قد يدفع تل أبيب للذهاب الى إضفاء أبعاد إقليمية أوسع على الرسالة السورية وصولاً الى طهران. والنتيجة المباشرة لهذا المفهوم أن التفاهمات المفترض التوصل اليها مع الجانب الروسي محدودة الضمانة. أما في ضوء الاحتمال الثاني، التنسيق مع موسكو، فسترى فيه تل أبيب «تسقيفاً» روسياً لأي تفاهمات مع إسرائيل. وبالتالي فهو استباق لأي نتائج مفترضة خلال المباحثات بين الطرفين، وتحديداً في ظل المرحلة الانتقالية والحرجة التي تمر بها سوريا والإقليم. وفي كلتا الحالتين، فإن إسرائيل ملزمة باستمرار التنسيق مع روسيا التي باتت وفق الأدبيات الاسرائيلية صاحبة البيت والمدخل الإلزامي لأي ترتيب سياسي أو أمني في سوريا.
لا يقل «الرد» الاسرائيلي دلالة عن المبادرة الصاروخية السورية. الملاحظة الاولى الأكثر حضوراً، أن استهداف البطارية الصاروخية السورية، بحسب الناطق العسكري الاسرائيلي، أفيحاي أدرعي، أتى بعد نحو ساعتين على إطلاق الصاروخ السوري. وهذا يعني أنه جرت مشاورات وتقديرات تتصل بأصل الرد الاسرائيلي وطبيعته وحجمه ومداه. وما أسهم في تعزيز هذه الرؤية، أن إسرائيل نفسها أعلنت أن «ردّها» أتى بعد إبلاغ الروس بالقرار. ويعكس ذلك إقراراً إسرائيلياً بحقيقة أن تل أبيب لا تستطيع تجاهل موقف موسكو في مثل هذه الحالات، رغم إدراكها لما قد يترتب على ذلك من تسليم بالقيود التي يفرضها الوجود العسكري الروسي، وتحديداً عندما يكون الاستهداف موجّهاً نحو الجيش السوري، وفي عمق الاراضي السورية.
مع ذلك، هدفت إسرائيل أيضاً، من خلال طبيعة «ردّها» وعمقه، الذي أتى على بعد 50 كلم بحسب المصادر الاسرائيلية من دمشق، الى إبلاغ سوريا أن أي تهديد لتحليق الطائرات الاسرائيلية سيواجَه بهجوم فوري، وأن تلويح دمشق بأي خيار ردّي أو استباقي لن يردع العدو عن مواصلة اعتداءاته، كذلك لن يمنعه عن ذلك الوجود الروسي المباشر في الميدان. وهكذا يكون كلّ من الطرفين قد أوصل رسائله الى الطرف الآخر، باللغة العملانية، مع حرصهما على الامتناع عن التدحرج نحو مواجهة واسعة، وعن حشر الآخر بما يؤدي الى سيناريو التدحرج. وضمن هذا الإطار، بات الحدث من منظور إسرائيلي لعباً سورياً بالنار، واستفزازاً لكنّه موضعيّ. ووفق التظهير السوري، تصدٍّ تقليدي «لاختراق إسرائيليّ لمجالنا الجوي»، مع تحذير من «التداعيات الخطيرة لمثل هذه المحاولات العدوانية المتكررة».