هذا العنوان ليس لي٬ بل هو للعدد الأخير من مجلة الشؤون الخارجية الأميركية. وقد تضَّمن مقالاٍت جاّدة بشأن الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بعد الانكفاء الأميركي في فترتي الرئيس أوباما. ولو تذكرنا وإْن متأخرين ثلاثة نقاشاٍت كبرى دارت خلال عهد أوباما٬ لأمكن اليوم الوصول إلى تقييم مقارب للمظاهر والظواهر والآثار.
كان النقاش الأول الذي دار على مشارف وصول أوباما للرئاسة: كيف يمكن الخروج من العراق دون مزيد من الخسائر؟ ثم في أواخر الفترة الأولى للرئيس دار نقاٌش كبيٌر حول التحول عن الشرق الأوسط إلى شرق آسيا والمصالح المتركزة بين الأطلسي والباسيفيكي. وفي العامين الماضيين دارت نقاشاٌت كبرى أيًضا حول كيفية استيعاب الأضرار الناجمة عن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط.
في الحالة الأولى بشأن الخروج من العراق٬ ما بدا أّن المقاربة كانت استراتيجية كما يقال٬ بل إّن هذا التفكير والتصرف٬ الذي بدأ أيام الرئيس بوش الابن٬ كان خليًطا من الإحساس بالفشل من جهة٬ وتجنب مزيد من الخسائر من جهة أخرى. ثم إّن ذلك كان بين الوعود الأبرز لأوباما في حملته الانتخابية. وفي النقاشات العلنية المتداَولة (2011 2009) ما عاد الأمر أمَر الجدال والتنافس بين الحزبين الكبيرين٬ بل في المصلحة الأميركية٬ والأمن الوطني الأميركي. قيل مثلاً إّن أحد أبرز أعداء الولايات المتحدة (صدام حسين) قد قُتل وذهب نظامه٬ وإّن الدولة العراقية الجديدة مزعزعة الأركان٬ لكْن يمكن أن تبقى بالتواصل بين الولايات المتحدة وإيران. أما الاضطراب الظاهر في المنطقة٬ وبخاصة بعد عام ٬2011 فينبغي النظر إليه بواقعية. فإسرائيل ليست مهَّددة بسبب جيشها القوي٬ وسلاحها النووي.
وهناك طرفان آخران حليفان للولايات المتحدة هما تركيا ودول الخليج. أما تركيا فتحقق تقدًما واستقراًرا٬ وينبغي الضغط على الأوروبيين لمزيد من استيعابها. وأما دول الخليج فيمكن طمأنتها بالضمانات الأمنية المزيدة. والُمقلق في ذلك كلِّه بعد تراُجع الإرهاب القاعدي الموضوع الإيراني. ولذا فينبغي العمل بكل الوسع والطاقة على استيعاب إيران: بالتشديد على المفاوضات حول النووي معها (وفي ذلك فائدة إضافية لإسرائيل)٬ كما ينبغي التعاُون معها في العراق٬ وإقناعها بسبب هذين الأمرين بأنه لا حاجة لاستمرارها في زعزعة أمن واستقرار دول المشرق العربي والخليج وتهديد إسرائيل. الميزات التي نالتها وتنالها إيران ستقنعها بالتأكيد بالالتفات إلى قضاياها الداخلية٬ والاندفاع مثل تركيا في الموجة التنموية.
إّن كَّل هذا النمط من التفكير والتقدير ما آتى أُكَلُه٬ وليس للجانب الإيراني فقط٬ بل ولجوانب أخرى. فإيران لم تسمح بقيام دولة حكٍم صالٍح في العراق٬ والإرهاب عاد لُيِطَّل برأسه٬ والمفاوضات النووية طالت وتعّقدت٬ ونتنياهو اشتَّد سخطه٬ والعرب ظلُّوا شديدي الغضب والإحباط. إنما في ذلك الوقت٬ أي بين عامي 2011 و٬2013 بدأت المرحلة الآسيوية ونقاشاتها في الولايات المتحدة وأوروبا أيًضا. قيل إّن مستقبل العالم كلّه يقع في شرق وجنوب شرقي آسيا٬ أي بين الصين والهند واليابان والنمور الأخرى الصغيرة والمتوسطة. وظَّل البترول الشرق أوسطي مأخوًذا بالاعتبار٬ لكّن الولايات المتحدة لم تعد بحاجٍة إليه بعد ظهور النفط الصخري٬ وبحوث الطاقة البديلة. لماذا لا تستطيع الولايات المتحدة الجمع بين الأمرين: الاستمرار في الاهتمام بالأمن في الشرق الأوسط٬ والإقبال على مطالعة تأثيرات ومستقبل الاقتصادات الآسيوية الكبرى؟ هذا المذهب اهتم به الاستراتيجيون القُدامى مثل كيسنجر الذي استشعر مع بقايا المحافظين الجدد أّن الثوران الإسلامي شامٌل للمجالين السني والشيعي. والخليج ومصر لا يقلاّن في الأهمية اقتصادًيا واستراتيجًيا عن الهند٬ لكْن حال دون أخذ الظواهر الجديدة بالاعتبار إصرار أوباما على أنه لا يريد العودة لإرسال جندي واحٍد باتجاه الشرق. وإنما الاستراتيجية الصحيحة هي في التركيز على الفُرص والأخطار في المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي٬ ومحاولة استيعاب الظواهر الجديدة بإشراك روسيا هنا وهناك٬ ومتابعة التفكير الاستراتيجي الصيني.
ما العمل لتجُّنب الأسوأ؟ أجمع الأميركيون والأوروبيون والعرب على ضرورة مكافحة الإرهاب٬ وبخاصة بعد ذهاب آلاف من الشبان الأوروبيين من ذوي الأصول الإسلامية للقتال مع «داعش»٬ وانتشار الإرهابيين والعمليات الإرهابية في عشرات الدول. إنما بعد عامين على هذا «الإجماع» ظهر أنه غير كاٍف. كان الأميركيون قد أوكلوا للروس وليس للإيرانيين منذ بيان جنيف 1 عام 2012 أمر تسوية المشكلة في سوريا بالأسد أو من دونه. وما استطاع الإيرانيون وحلفاؤهم الروس فعل شيٍءُيبقي الأسد ويحقق الاستقرار٬ لا بحجة مكافحة الإرهاب ولا بحجة الإبقاء على الدولة السورية والجيش السوري! وبالإضافة إلى التحطم شبه الحتمي للعراق٬ هناك مصائر لا تقُّل هولاً في سوريا وليبيا. وفي لبنان تحت وطأة الضغط الإيراني دولٌة فاشلة. والأوروبيون تتهددهم سيول الهجرة من بلدان النزاعات.
بدأ الأميركيون (ومعهم الأوروبيون) يتحدثون منذ عام 2010 عن ضياع الشرق الأوسط من يد الغرب٬ وهو أمٌر لم يحدث من قبل منذ سقوط الدولة العثمانية. وهذا معنى نْعي اتفاقية سايكس بيكو وحدودها. إنما في الواقع٬ كان الأميركيون هم المهيمنين٬ والبريطانيون والفرنسيون يشتغلون عندهم منذ الخمسينات. وهذا سبُب عنوان مجلة الشؤون الخارجية الأميركية عّما بعد الشرق الأوسط الأميركي٬ وليس الغربي. لقد اعتقد الأميركيون أنه فيما بعد الحرب الباردة يمكن للأميركيين أن يهيمنوا وبالقوة العسكرية٬ التي بلغت ذروتها عام 2003 بغزو العراق. ثم تبين أنه وفي الظروف المعاصرة للحروب الصغيرة فإّن كَّل أحد يستطيع مقاتلة القوى العظمى إذا توافر له السلاح والعزيمة. وهكذا فإّن أنصار أوباما يقولون الآن إّن العودة العسكرية ليست هي الحل٬ فقد جربها الأميركيون في الصومال والعراق وفي ليبيا٬ ويجربها الروس والإيرانيون منذ أكثر من سنتين بسوريا.
لكن هذا موضوع٬ وظهور شرق أوسط غير أميركي موضوٌع آخر. فالأميركيون مسؤولون قبل غيرهم عن الاضطراب الحاصل في العراق بسبب الغزو. ولن يكونوا علاًجا بالطبع. وكذلك الروس الذين لا يقلُّون عن الأميركيين قسوًة وعنجهية. وهنا يأتي السؤال: من البديل إذن الذي يستطيع إعادة السلام والاستقرار٬ وإطلاق عمليات الإعمار والتنمية؟ ماُدِّمر في تونس الشيء الكثير والحمد . لكّن البلاد رغم النظام الديمقراطي والاستقرار النسبي مستنفرة٬ والتنمية صعبة. ومعظم الأطراف لا يزالون يعاملون الولايات المتحدة باعتبارها سيدة الساحة: لكن هل تريد أميركا العودة؟ والإجابة أنها لا تريد ذلك٬ لكّن الآخرين (بمن فيهم الروس) لا يستطيعون الحلوَل محّل أميركا لا بالعسكر ولا بالسياسة. فقد لا يكون مستقبل المنطقة أميركًيا٬ بمعنى الهيمنة. لكّن الحاجة إلى أميركا واضحٌة لسائر الجهات المعنية.
ولذلك سيظلون لزمٍن أفضل أو أسوأ!