بدأت حكومة بنيامين نتنياهو تكشف عن «أجندتها» السياسية لمرحلة ما بعد الحرب مع «حزب الله». وهذه «الأجندة» تنبئ بتبدلات عميقة في «الستاتيكو» القائم في لبنان منذ عقود.
تصرّ إسرائيل على استثمار كل لحظة من الفرصة المتاحة لها حالياً، من أجل تغيير الوضع في لبنان. ولذلك، تبدو خطواتها العسكرية مستعجلة جداً ومكثفة، إذ لا يكاد يمرّ يوم لا تحقق فيه استهدافات جديدة، مفاعيلها مفصلية.
وهذا يفسّر فشل مشروع التسوية الأميركي- الفرنسي الذي طُرح على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك. كما توضح حيثيات إعلان وزير الخارجية الإسرائيلي إسرائيل كاتس، رفض حكومته أي وقف للنار في لبنان خلال هذه المرحلة. بل إن كاتس ذهب بعيداً في تحديد الأهداف الإسرائيلية. فهي لم تعد مجرد فك الارتباط بين لبنان وغزة وانسحاب المقاتلين والسلاح الثقيل بضعة كيلومترات عن الخط الأزرق، بل تجاوزت ذلك بكثير.
يقول كاتس إن الحرب الحالية ستستمر حتى ينسحب «الحزب» إلى ما بعد الليطاني، ثم يُنزع سلاحه تماماً شمال خط النهر، ويتمّ تنفيذ كل القرارات الدولية ذات الصلة. وهذا يعني خصوصاً القرارين 1559 و1701 اللذين ينصّان على إنهاء أي وجود مسلح على الأراضي اللبنانية، ما عدا سلاح القوى الشرعية اللبنانية. وهو أبلغ هذا القرار إلى وزراء خارجية 25 دولة معنية بالوساطة، بينها كندا ودول أوروبية كبريطانيا وألمانيا.
طبعاً، هي ليست المرّة الأولى التي تطرح فيها إسرائيل هذه المطالب. لكنها ربما وجدت اليوم أنّ الظروف قد نضجت لتحقيقها، في ضوء الضربات القاسية والمتلاحقة التي سدّدتها إلى «الحزب»، وفيها اغتالت قيادته بكاملها وقسماً كبيراً من كوادره العملانيين، كما دمّرت نسبة واسعة من مخزوناته وقدراته الصاروخية من الجنوب إلى البقاعين وجبل لبنان والضاحية الجنوبية، وهي تعكف عبر إعلامها على تسريب تقديرات مفادها أنّ نحو 90% من طاقة «الحزب» النارية قد دُمّرت.
ما تستطيع إسرائيل أن تجزمه هو أنّها ضربت البنية القيادية لـ»الحزب»، وبأنّها اغتالت أو عطّلت عدداً كبيراً من الكوادر والمقاتلين ونسفت جزءاً واسعاً من منظومة اتصالات «الحزب». ولكن، حتى اليوم، لا معلومات دقيقة عن الحجم الفعلي للخسائر في ترسانة الصواريخ البالستية والمسيّرات والمدافع الثقيلة، التي يمكن لبعضها أن يبلغ العمق الإسرائيلي، إذا تمّ إطلاقه من أي نقطة كانت في الجنوب أو البقاع أو الجبل.
في الأشهر الأولى من الحرب، لم يكن طموح الإسرائيليين أن يضمنوا أمنهم «جذرياً» أي على المدى الطويل، بل وافقوا على التسويات المرحلية التي عمل عاموس هوكشتاين على تسويقها. لكن الأمور تبدّلت عندما ارتاحوا من عبء غزة، وتأكّدوا من عدم رغبة إيران في المواجهة، ووجدوا فرصة لاستغلال دعم واشنطن إلى الحدّ الأقصى في لحظة إرباكها الانتخابي. ولذلك، قرّرت حكومة اليمين واليمين المتطرّف أن تعتمد الخيار الأقصى والنهائي، الذي لا يعود فيه «حزب الله» قادراً على تهديد إسرائيل، في أي يوم مستقبلاً. وهذا يفسّر إصرارها على ضرب المخازن والمنصات في المناطق البعيدة في العمق اللبناني. بل إنّها قرّرت منع وصول أسلحة جديدة إلى «الحزب»، فهدّدت بتعطيل مطار بيروت، وضربت مخازن يُحتمل أن يأتي منها السلاح، داخل الأراضي السورية.
طبعاً، ما يطلبه الإسرائيليون من «الحزب» اليوم، أي التخلّي عن سلاحه، كان يعتبره حتى الأمس القريب خطاً أحمر. وهو كان مستعداً للقيام بأي شي ليمنع حدوثه. بل إن هذا الملف هو أساس الانشقاق العمودي الذي يُضعف لبنان ويعطل دولته، وعنوانه: هل يحق لـ«الحزب» أن يستمر في امتلاك ترسانة السلاح الخاصة به أم لا؟ وتالياً، هل يستقوي به ليفرض خياراته السياسية ويتحكم بالسلطة أم لا؟ وقد فشل لبنان في حل هذه العقدة، ولو بعنوانها الملطّف «الاستراتيجية الدفاعية»، وشعر الجميع بعبثية النقاش حول هذه المسألة.
اليوم، وتحت تأثير الحرب، يُحتمل أن يوافق «الحزب» على تسوية متكاملة تقضي فعلاً بنزع سلاحه ككل. وهذا الأمر يتكفّل بحلّ عقدة السلاح ببعدها الداخلي، ويفتح الباب لتسويات أكبر بين اللبنانيين، في موازاة التسوية المرتقبة مع إسرائيل. ويجدر التوقف عند الطروحات التي أطلقها الرئيس نجيب ميقاتي أمس، إذ تعهّد بتنفيذ القرار 1701 ونشر الجيش اللبناني جنوب الليطاني وإنجاز الانتخابات الرئاسية، فور وقف النار.
هذه التحولات المفصلية توحي بأنّ ما ينتظر لبنان، في اليوم التالي للحرب الدائرة حالياً، يمكن أن يكون فرصة غير مسبوقة لإنتاج تسوية سياسية تاريخية بين اللبنانيين. فالالتزام الدقيق بالقرارات الدولية كلها، ولا سيما منها الـ1559 والـ1701 في شكل حاسم وحازم، بمشاركة دولية وإقليمية وثيقة، يعني تسليم الجيش اللبناني وحده مسؤولية الأمن على الأراضي اللبنانية بكاملها، وليس فقط جنوب الليطاني. وعلى الأرجح، هذا ما ستنتجه التسوية التي يُتوقع أن تشمل ترسيماً للحدود البرية، يعالج الإشكال الواقع عند الحدود في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، في شكل مرحلي أو دائم، على غرار الترسيم الذي شمل الحدود البحرية قبل عامين.
هذا المشهد يفترض أن يقود لبنان عملياً إلى إعادة بناء الدولة بمؤسساتها كافة، ما يمهّد لمرحلة ازدهار لم يكن يتوقعها حتى أكثر المتفائلين. ففي هذه المناخات، من المنطقي أن يتمّ رفع العقوبات عن «حزب الله» ولبنان، بدءاً بتعويم مقررات مؤتمر «سيدر» والإفراج عن 11.5 مليار دولار تمّ تجميدها في العام 2018 في سياق محاصرة «الحزب» ولبنان. وهذا ما سيتكفل بإطلاق العجلة المالية والاقتصادية التي تغرق في الوحول منذ 5 أعوام.
هل هذا التفاؤل مبالغ فيه؟ الأمر رهن بمسار الحرب والاتصالات السياسية الجارية، سواء بين القوى المحلية أو بين القوى النافذة التي تضع في يدها مصير لبنان وسائر الكيانات المهتزة في الشرق الأوسط.