قد تكون النتيجة الأولى للتغيير الحاصل في السعودية، تأجيل البحث أو البت في الاستحقاقات اللبنانية، بعض الوقت. ذلك أن كل النظرية المؤسسة للحوارات اللبنانية الأخيرة، كانت منبثقة من قراءة سعودية، أو على الأقل من تصور معيّن لموقف محتمل لحكام الرياض. كانت النظرية – الفرضية تقول بأن تقدماً ما قد سجل على الخط الأميركي – الإيراني.
وأن هذا التقدم قد بات ملموساً في ملفات مثل العراق، ومرجحاً في ملفات أخرى، منها سوريا ولبنان. وكانت النظرية نفسها تتابع أن السعوديين استشعروا هذا التقدم. وأنهم بادروا إلى الإسراع في حسم ملفاتهم الخاصة، واستثمار ما يملكون فيها من أسهم وحصص، على أعلى سعر ممكن، قبل إقفال السوق. وخصوصاً قبل أن تظهر المعطيات الجديدة فتنخفض الأثمان أو تنهار المقاصات. وكان يقال إن لبنان ملف أول معنية به السعودية، إن لجهة استثمارها السياسي فيه، أو لجهة تحوله ساحة من ساحات الحرب على «الوهابية الثانية»، أو «داعش». وهي الظاهرة المقلقة للسعوديين، حتى إشهار العداء المتبادل بين «الخليفة الجديد» و»ولي الأمر الدائم». فضلاً عن عناية سعودية ثالثة بلبنان، من باب الطلب الأميركي إلى الرياض وكل أصدقاء واشنطن في المنطقة، بالتجند صفاً واحداً لمكافحة المسخ الداعشي. وهو المسخ الذي استولد بداية على خلفية توجيه ضربة استراتيجية إلى إيران، عنوانها تسليط تلك الجماعات التكفيرية على منطقة متداخلة بين غرب العراق وشرق سوريا، بما يؤمن أميركياً وسعودياً مصلحة كبرى، عنوانها قطع الجسر الجيو ستراتيجي المفصلي بين طهران ودمشق عبر بغداد، وصولاً إلى بيروت وحتى فلسطين المحتلة…
هكذا قيل إن الحسابات تبدلت، وإن الأميركي تقلب خلال أربعة أعوام من ربيع العرب القاسي، بين أربع «أميركات». أميركا الأولى صديقة أنظمة الاستقرار العسكريتاري والتيوقراطي قبل انبلاج سنة 2011. ثم أميركا الثانية المترقبة لمشروع تحالف ممكن أو حتى مرجو مع الإخوان المسلمين، بين ثورة 25 يناير وصدمة 30 يونيو. وصولاً إلى أميركا الثالثة المكتفية بعد سقوط مشروع الإخوان، بحد أدنى هو حماية أمن اسرائيل عبر أحزمة صديقة، من الجولان إلى سيناء. وحدّ أقصى هو تفقيس كل الغرائز البربرية على أيدي التكفيريين، وتفليت أقصى فوضاها في المشرق لتبرير كل الفشل السابق. انتهاء بأميركا الرابعة، المستدركة لضرورة حد أدنى مما دون الجهنمية المطلقة في سياسات المصالح وحسابات النفوذ. وهي أميركا التي تفاوض اليوم إيران، وتعيد تركيب سلطة العراق، وتبارك لروسيا مسعاها إلى «موسكو واحد» كمحاولة حل لسوريا، ووسط ذلك كله، تحرص على استقرار لبنان، لأكثر من سبب وسبب…
وسط هذا المشهد المتغير برمته، تقول الفرضية أن السعوديين قرروا المساهمة في ترتيب البيت اللبناني. وترتيب هذا البيت بحسب أولويات الرياض وتطلعاتها، كما بحسب كل المعطيات السابقة، وبحسب مقتضيات التوازن اللبناني نفسه، يعني أولاً عودة سعد الحريري إلى بيروت. وتحديداً عودته رئيساً للحكومة. وعودتان كهاتين، تقتضيان حكماً أمرين اثنين: التفاهم أولاً مع حزب الله. وثانياً انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يفتح الباب دستورياً وواقعياً أمام عودة الحريري الابن إلى السراي الكبير. هكذا انطلق الحوار في عين التينة، وهكذا بدأ تلمس نظيره على خطوط الرابية المتعددة.
غير أن ثلاثة أحداث مفاجئة، في خلال أيام معدودة، بدت وكأنها طرأت كمتغيرات سلبية على الجدول الزمني الافتراضي لذلك المسار: أولاً انهيار الوضع العسكري في اليمن، بما سمح للمعسكر الصديق لإيران، باستكمال سيطرته على هذا البلد الاستثنائي الموقع جيوستراتيجياً. بحيث باتت اليد الإيرانية، ممتدة بين عسير السعودية – اليمنية، وبين باب المندب. ثانياً، الغارة الاسرائيلية على الموكب الإيراني – الحزبللاهي في القنيطرة. مع ما أدت إليه من نتائج ميدانية وعسكرية وسياسية. قد تكون خلاصتها الأولى والأكثر بداهة، تمدّد «الوجود» الإيراني حتى ملامسة أكثر من حدود فلسطينية وقلب. وفيما المنطقة لم تهضم قضمة صنعاء ولا عض الأصابع المستمر في سوريا، جاء الحدث الثالث، غياب عبدالله. حدث كان متوقعاً منذ مدة. حتى قيل أنه كان قد حصل قبل أيام. وأن تأجيلاً لإعلانه قد تم، من أجل تحضير الخطوات اللاحقة. والخطوات اللاحقة في هذا المجال، لم تكتف بمعادلة «مات الملك عاش الملك». ذلك أن أسئلة أكثر عمقاً مطروحة، أولها أي «ملك ظل» سيعيش في ظل الملك الرسمي مقرن؟ هل هو متعب نجل عبدالله، أم شخص آخر؟ وآخرها، أي نظام سيعيش، في ظل انتقال السلطة هناك من جيل إلى جيل؟ لم يتأخر الجواب الأول: محمد بن نايف يعود. لكن الجواب الثاني قد يتأخر بعض الشيء، هل يستمر النظام كما كان وكما هو؟
في هذا المشهد، قد تتجمد فعلياً مسارات الحوارات اللبنانية. حتى انقشاع الصورة من صنعاء، إلى القنيطرة، ومن الرياض إلى بيروت. وسيكون المتحاورون مضطرين لشوط إضافي من لعبة تقطيع الوقت الضائع. حتى يحين وقت الجد.