IMLebanon

عُمر القوى الثوروية وتدجينها الطبقة السياسية

  

يُخطئ من يعتقد أنّ الحراك المدني الذي يملأ شوارع وسط بيروت وساحاتها لم يُحقّق شيئاً. فعدا الرقابة الصارمة التي نفّذها أوّلاً في ملف النفايات وثانياً في بعض ملفات الفساد، ما حدا بالقضاء للتدخّل في فواتير الكهرباء المكدّسة وغير المدفوعة، حقّقَ الحراك مسألة أساسية وكبيرة جداً، ألا وهي تعرية الطبقة السياسية وكَسرُ تلك «الهالة» التي كانت تحيط بها، ما كان يُسهّل لها اللعب على الناس والتلاعب بهم.

كان مشهداً «صادماً» لم يعتَد عليه اللبنانيون، أن تهاجم مجموعات من الناس مسؤولين كباراً ووزراء وزعماء سياسيين لطوائف، وفي المقابل بدا هؤلاء عاجزين عن وقف «التشهير» بهم على الملأ وعبر شاشات التلفزة. وفي النتيجة بدت هذه الطبقة السياسية «عارية» في زمن الفوضى الذي يسود الشرق الأوسط بأسره، وحيث يتحضّر الجميع لحقبة جديدة بوجوه جديدة قد لا يكون لبنان بعيداً عنها.

في السابق كان يقال إنّه من المستحيل أن يشهد لبنان انقلاباً أو ثورة على غرار ما هو سائد في العالم العربي. ذلك أنّ التركيبة الطائفية لهذا البلد تجعله بمنأى عن حدث يحتاج لمشاركة الجميع فيه. والواضح أنّ كلّ حاكم مستهدَف كان قادراً على النفخ ببوق الطائفة التي ينتمي إليها ويُصوّر ما يحدث وكأنّه للاقتصاص من هذه الطائفة، فتنقلب المسألة من ثورة أو انقلاب إلى حرب طائفية يزخر بها تاريخ لبنان.

لذلك ربّما يعتقد المراقبون أنّ عمر «ثورة» الحراك المدني قد لا يكون طويلاً وأنّه لذلك أيضاً لا تُبدي العواصم الغربية قلقاً منه لاقتناعها بأنّه غير قادر على هدم البنيان الطائفي للتركيبة اللبنانية.

لكن جلّ ما يأمله بعض هؤلاء توجيه ضربة قاسية إلى الطبقة السياسية والفساد المستشري فيها، وإضعاف «الإمارات» المذهبية والمالية التي تشكّل جزراً مستقلة داخل دولة ضعيفة ومشَلّعة، وتحضير المسرح لمواكبة الصورة الجديدة لدول الشرق الأوسط.

من هنا، ما حقّقه الحراك المدني حتى الآن لم يكن بقليل. أصبح من السهل تناول شخصيات كبيرة عبر وسائل الإعلام وتوجيه الاتهامات إليها. وبدت الطبقة السياسية عاجزة عن إيجاد خطة الدفاع، وكان أبلغَ مثال على ذلك تغريدة النائب وليد جنبلاط حين تساءل لماذا انحصرَت تسمية الفاسدين بثلاثة أسماء؟ بما معناه نحن وغيرنا أيضاً.

تحت وطأة هيَجان الشارع كان من الصعوبة في مكان الاستمرار في ترَف المراوغة والمناورة السياسية. ضاقَ الهامش كثيراً في الظرف الصعب الذي يمرّ فيه لبنان حيث تجهد السلطة للبقاء من خلال استعارة تجارب وتركيب نظريات وتجزئة بنود دستورية.

من هنا اندفعَ الجميع لتضييق الفجوات، علّ ذلك يساهم في تهدئة الشارع وبالتالي تقصير عمر هذا الحراك.

ومن هنا يفسّر البعض دعوة الرئيس نبيه برّي إلى ستّ جلسات حوارية ماراتونية في 6 و7 و8 من الشهر المقبل، من دون إغفال سببين آخرين لذلك. الأوّل: ما شهدته الجلسة الأخيرة من تجاوز للنقاش العقيم حول مواصفات رئيس الجمهورية المقبل والدخول في بند فائق الأهمية وهو قانون جديد للانتخابات، كونه سيشكّل بنداً أساسياً في تسوية «مسقط» المنتظرة عندما يحين الموعد الإقليمي لها.

والسبب الثاني التطوّرات المتسارعة في الملف السوري والتي تعني حصراً إنضاجَ كلّ الظروف للذهاب في مشوار التسوية السياسية. والواضح أنّ الإقرار العلني والرسمي للعواصم الغربية ببقاء الرئيس بشّار الأسد على رأس السلطة ولفترة تُحدَّد لاحقاً وطرح مبدأ نقل صلاحيات إلى حكومة يتشارك فيها الجميع سلطةً ومعارضة، يعني أنّ العمل جارٍ لتركيب أسُس التسوية في سوريا، ما يَدفع للإسراع في تحضير الساحة اللبنانية لتواكبَ المشوار الإقليمي، خصوصاً أنه لم يعُد سرّاً ربط التسوية اللبنانية بترتيبات مطلوبة سوريّاً.

ووفق ما تقدّم كان لا بدّ من تبريد الجبهات الداخلية وبالتالي الإقرار بمبدأ تدوير الزوايا. من هنا بدا الجميع موافقاً على التسوية حول الملف الأمني بمَن فيهم تيار «المستقبل» الذي يترأس الرئيس فؤاد السنيورة كتلته السياسية.

لكنْ بدا للبعض أنّ السنيورة يحاول تحصيل «مكاسب» في آليّة عمل الحكومة قبل منح الموافقة، وهذا ما جعلَ الرئيس برّي يَعتبر أنّ لعبة «التشاطر» ليست في محلّها، فرفَع الجلسة خشية انفلات الأمور وأرسلَ سريعاً الوزير علي حسن خليل للقاء مدير مكتب الرئيس سعد الحريري نادر الحريري، لتبيان ما إذا كان هناك من تعديل. لكنّه سمع تأكيداً إضافياً على السير في التسويات وتدوير الزوايا.

من الزاوية نفسِها بدا جنبلاط حانقاً لدى خروجه من الاجتماع، لدرجة أنّه سُمع يُتمتم بغضب: «… إذا بيجيب الواحد ولد بسمّيه فؤاد».

باختصار أنجَز الحراك المدني الكثير، وخسَّر الطبقة السياسية، فدفَعها دفعاً لسقوف سياسية أكثر انخفاضاً ومرونة.

لكن لا يزال أمام هذا الحراك «مهامّ» أخرى، منها ما يتعلق بتحضير الأجواء أكثر للذهاب إلى تسوية، ومنها أيضاً تعرية الطبقة السياسية أكثر تمهيداً للدخول في مرحلة إدخال التعديلات المطلوبة على النظام السياسي اللبناني.

«فضيحة» النفايات فتحت الباب أمام البحث في «لامركزية» النفايات، وقد تليها لامركزية أخرى ستكون من صلب أعمال العهد الجديد.