سمعَت أوساط سياسية لبنانية كلاماً أميركياً واضحاً بأنّ واشنطن تُدين دخول محتجّي المجتمع المدني الى وزارة البيئة والاعتصام داخلها، إضافة إلى تأكيد أميركي أنّ مثل هذه الأساليب لا تدخل ضمن نطاق حرية التعبير السلمي الذي تدعمه أميركا بحزم وتُدين قمعه.
كان واضحاً صدى هذا الكلام الأميركي داخل وزارة الداخلية، وذلك حينما أعلن الوزير نهاد المشنوق في مؤتمره الصحافي الأخير أنّ قوى الأمن ستمنع في المرة المقبلة المحتجّين من احتلال المرافق العامة للدولة منذ اللحظة الأولى لمباشرتهم بذلك.
علماً أنّه وحتى داخل الحراك لا يوجد توافق على تنفيذ اعتصامات داخل المؤسسات العامة للدولة، لأنّ مثل هذا التكتيك، حسب عارضيه، يُشكّل نوعاً من إعلان الحرب على السلطة، وهو أمرٌ لن يكون في مصلحة الحراك.
والواقع أنّ أهلَ الحراك الشعبي نزلوا أمس الأول الى ساحة الشهداء وهم منقسمون حيالَ أساليب الاحتجاجات، وكان يمكن للمراقب لاعتصام التاسع من أيلول ملاحظة أكثر من مناخ داخله، كان أبرزها اتجاهٌ غالب حاوَل فرض سمة سلمية الاعتصام ولو عنوة على اتجاهات أخرى فيه.
وتمَظهر هذا الامر من خلال مشهد بدا واضحاً داخل الاعتصام، تمثّل بقيام نشطاء من «طلعت ريحتكم» و«بدنا نحاسب» بتشكيل سلاسل بشرية اتّبعت تكتيكات تشتيت تجمّعات مشاركين في الاعتصام ينتمون داخل الحراك إلى أجواء لا تزال مصرّة على الاحتكاك بقوى الامن ورفع منسوب التحدّي للحكومة، كون هذا الأسلوب من وجهة نظرهم هو الأنجح لجعل السلطة تستمع لمطالب المحتجّين.
خرَجت هذه الأجواء المنتمية لـ»مناخ الصدام» من اعتصام أمس الأول، غير راضية تماماً عن سَير وقائعه. واتّهمت نقاشاتها الأولية لتقويم نشاط حراك 9 أيلول، كلاً من «طلعت ريحتكم» و»بدنا نحاسب»، بأنهما يشكّلان «حرس حدود» للسياج الذي يفصل بين المحتجّين وقوى الامن ومقرّ رئاسة الحكومة. ويجادل هؤلاء بأنّ سمة السلمية لا يجب أن تعني الحمائمية، ويذكرون بأنّ ثورة الياسمين في تونس لم تكن سلميّة.
ثمّة مناخ آخر داخلَ الحراك يقف أيضاً على يسار مبدأ سلميّته. وأنصاره لا يطالبون بالصدام، لكنّ نقطة «العنفية» في رؤيتهم تتمثل في أنهم يعتبرون أنّ النزول الى الساحات ليس له فقط هدف التدرّج في تحقيق الحقوق المطلَبية، بل هدفه الأساس فرض «ميزان قوى جديد على أرض الواقع السياسي، بين أحزاب السلطة ومعها الحكومة من جهة وبين الحراك من جهة ثانية».
يقف على رأس هذا الاتجاه الوزير السابق شربل نحاس المتّهم حتى داخل أجواء في الحراك بأنه «مستعجل» لحَسم المعركة مع السلطة والطبقة السياسية، ويسترشد في مقاربته لوظيفة الحراك بـ»نظرية حرق المراحل».
يعتبر نحاس في نقاشات الحراك الداخلية أنّ الطبقة السياسية بدأت تهتزّ وأنّ المطلوب تكثيف الضربات ضدّها حتى تنهار بالكامل، بحيث تنتقل شرعية السلطة الى الشارع الذي عليه الضغط لعَقد انتخابات مبكرة على أساس لبنان دائرة واحدة وفق القانون النسبي.
وداخل الحراك، سواءٌ فوق ضفتَي الليبرالية وحتى يساريّيه، يصفون رؤية نحاس بـ»الطوباوية». ويعتبرون أنّ الأحزاب لا تزال قوية، بدليل الحشد الوازن لتظاهرة العونيين الأسبوع الماضي ومهرجان النبطية بمناسبة تغييب الامام موسى الصدر قبلها.
من وجهة نظر «طلعت ريحتكم» فإنّ الوقت الآن هو لتسجيل أهداف في مرمى الحكومة وليس لإحداث تغييرات بنيوية في معادلة القوى في البلد. أما بالنسبة إلى «بدنا نحاسب» فإنّ المرحلة تتَّسع لأهداف بنيوية نقطوية تضرب مفاصل احتكار الطبقة السياسية للفساد، الواحدة تلوَ الاخرى.
وبالنسبة إلى مناخ الصدام، فإنّ الهدف الأساس الآن هو لرفع منسوب التحدّي للحكومة والسلطة، وذلك على نحوٍ يجعلها تخضع لرسالة الحراك بأنّ أوان التغيير قد آن.
ثمّة مناخ آخر داخل الحراك لا يزال مستتراً بقرار مِن قادته الذين يُفضّلون البقاء في هذه المرحلة وراء الستارة. ويتشكّل هذا المناخ من أجواء واسعة موجودة في لبنان وفي بلدان الاغتراب، وكان له حصّة في الإشارة اليه خلال وقائع اعتصام 9 أيلول، وذلك عند عرض مقاطع فيديو منتقاة بعناية أمام حشود ساحة الشهداء عن أنشطة احتجاجيّة مساندة للحراك نفّذها لبنانيون في دول اغترابهم.
ويعتبر هذا المناخ أنّ ميزة قوّته داخل الحراك عن بقية مركباته الأخرى، ستبرز لاحقاً، وذلك من خلال إثبات قدرة شخصيات اغترابية تنتمي اليه على تجنيد مؤسسات دولية حقوقية وعدلية لمواكبة مطلب الحراك في لبنان بمقاضاة مسؤولين في البلد.
ويخلص متابعون للمناخات المختلفة التي يتشكّل منها الحراك والتي بدأت تتَّضح معالمها أكثر فأكثر مع كلّ نشاط مركزي جديد، الى إدراج الاستنتاجات الرئيسة الآتية:
أولاً – سلمية الحراك ليست نهائية، ذلك أنّه لا يزال هناك قوى بداخله تعتبر أنّ ثورة الياسمين التونسية التي خلطت بين السلمية والعنف، تُمثّل النموذج الأنسب لحراك لبنان. وداخل اعتصامات الحراك يمكن الاسترشاد الى أنصار هذا التوجّه من خلال البيئات التي ترفع شعار «ثورة… ثورة».
ثانياً – يضمّ الحراك نزعاتٍ انقلابية أقلّ من عنفية وأكثر من سلمية. ويمثل هؤلاء أنصار مقولة إنّ وظيفة الحراك هي فرض ميزان قوى جديد في البلد لصالحه في وجه الطبقة السياسية وأحزابها الآيلة للانهيار السريع.
ثالثاً – أجندة الحراك الخارجية أو المنقادة من الخارج لا تزال مخفيّة بقرار من واضعيها. ولا يوجد أيّ تأكيد معلوماتي أنّ هذه الأجندات وضعتها دول صغيرة أو كبيرة، بل تؤشّر كلّ المعطيات إلى أنّ أصحابها في غالبيتهم شخصيات أميركية وأوروبية من أصل لبناني.
رابعاً – وفّرت وقائع اعتصام 9 أيلول، للمرة الأولى قياساً بكلّ أنشطة الحراك السابقة، فرصة لمتابعيه عن قرب لإدراك أنّ مناخات الحراك الداخلية تعتمل بنزعات صدام مقبلة حيالَ خياراته عن الأهداف وأساليب الوصول اليها. كما أنّه ألمَح الى وجود قوى جديدة في طريقها للانضمام العلني اليه.
وتتمثّل بلبنانيين في الاغتراب لديهم امتداداتهم داخل حراك لبنان، ولديهم أجندة مركّبة لم يحِن وقت إعلانها، تدمج بين ضغط المجتمع المدني اللبناني والمجتمع الدولي على الطبقة السياسية اللبنانية وأحزابها والسلطة.
خامساً – اعتصام 9 أيلول أظهَر أنّ السلمية يتم تجسيدها في أنشطة الحراك عبر غلبة الفريق المؤيّد لها على الفريق المنتقد لها، وليس كخيار جامع لأهل الحراك. وتتضمّن هذه الملاحظة في ثناياها خطورة أن يؤدّي أيّ إحباط يُصيب الحراك على مستوى فشله في تحقيق أدنى مطالبه، الى اتساع بيئة المنحازين لنزعة اللاسلمية بين صفوفه.