في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات، كان قد مضى نحو أسبوع على بدء الحرب الإسرائيلية على حزب الله، تكثفت في خلاله مجموعة من الخطوات الميدانية المفصلية التي راهنت عليها إسرائيل لتعبيد الطريق لتحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية المؤملة. في المقابل، شهدت هذه الأيام نفسها المفاجآت التي وعد بها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، والتي انطوت على مؤشرات مبكرة للنصر
في اليومين الأولين من عدوان تموز 2006، غيّر العدو اسم العملية العسكرية الإسرائيلية من «الجزاء المناسب» إلى «تغيير الاتجاه». وأهم ما انطوى عليه هذا التغيير، أن الأول يوحي بأن العملية العسكرية هي ردّ فعل على عملية الأسر، وتهدف إلى تدفيع حزب الله ثمناً مؤلماً لتعزيز الردع.
أما الثاني، فقد انطوى على إعلان إسرائيلي بأن العملية تتجاوز كونها رداً على عملية الأسر، وتهدف إلى تغيير جذري في الواقع اللبناني والإقليمي. وهو ما عبّر عنه لاحقاً، في 19 تموز، رئيس الوزراء إيهود أولمرت، أمام الكنيست، بالقول إن «الشرق الأوسط بعد الحرب لن يكون كما كان قبلها»، والموقف الشهير لوزيرة الخارجية الأميركية، آنذاك، كوندوليزا رايس التي ربطت بين الحرب الإسرائيلية وإنتاج شرق أوسط جديد.
وحرصت إسرائيل على أن تكون أولى ضرباتها «الاستراتيجية» (أو ما راهنت عليه أن يكون كذلك)، ما أطلقت عليه «الوزن النوعي» الذي استهدف، كما كانت تخطط، القدرات الصاروخية المتوسطة والبعيدة المدى للمقاومة. وبدا أن الإسرائيلي استند إلى تقدير مفاده أن نجاح هذه العملية الجوية سيسلب حزب الله القدرة على الرد في العمق الإسرائيلي، في مقابل الضغط العسكري التصاعدي الذي يستهدف عمق المقاومة في لبنان. وبفعل ذلك، سيتوسع هامش المبادرة العملانية أمام الجيش الإسرائيلي، في مقابل تضييق خيارات الرد العسكري أمام الحزب. وبحسب الخطة الإسرائيلية، ومن ورائها الأميركية، كان يفترض أن يؤدي ذلك إلى إرساء معادلات تضعف المقاومة وتؤدي إلى إخضاعها، وصولاً إلى بلورة واقع سياسي استراتيجي في لبنان والمنطقة.
أيضاً، في خلال الأيام الأولى من الحرب، استُهدِف ما كان يعرف بمنطقة الشورى في حارة حريك، في رهان إسرائيلي على استهداف مقارّ القيادة والسيطرة لقيادة المقاومة، ومحاولة الضغط على قرارها وجمهورها. واستنفد في الأيام الأربعة الأولى من الحرب كل «بنك الأهداف» العسكرية الذي عكفت الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية على جمعه طوال السنوات التي خلت. وبلغ الصلف أن ضباطاً كباراً في هيئة الأركان، من ضمنهم رئيس شعبة العمليات في حينه اللواء غادي أيزنكوت (رئيس الأركان الحالي)، اقترحوا على رئيس الأركان في حينه دان حالوتس، وقف الحرب بعد استنفاد بنك الأهداف. لكن الأخير رفض، وبالطبع معه القيادة السياسية التي تملك القرار النهائي.
هكذا، يلاحظ أننا كنا أمام اندفاعة إسرائيلية سريعة وقاسية تهدف إلى توجيه ضربات مفصلية للمقاومة تؤدي إلى إخضاعها وإسقاطها. لكن حزب الله أجهض هذه الاندفاعة، عبر سلب الإسرائيلي ما كان يفترضه مفاجأة استراتيجية (عملية الوزن النوعي). وتبين لاحقاً، بحسب ما أعلن السيد نصر الله، أن ما جرى لم يكن سوى عملية «وهم نوعي». وأثبتت تطورات الميدان أن الضربات العسكرية التي اعتبرتها إسرائيل مفاجئة، لم تحقق أهدافها، خصوصاً بعدما أخذ ردّ حزب الله يتصاعد على العمق الإسرائيلي. وكانت المفاجأة الأولى في هذا المجال الصليات الصاروخية التي بدأت تتساقط على حيفا بدءاً من 16 تموز حتى نهاية الحرب.
في السياق نفسه، أتت مفاجأة استهداف البارجة الحربية الإسرائيلية «ساعر». أحدثت هذه العملية ونجاحها صدمة في الواقع الإسرائيلي، قيادة وجمهوراً، لأنها شكلت مفاجأة على المستويين المفاهيمي والعملاني. ومردّ ذلك أن القيادة الإسرائيلية استبعدت في حينه إمكانية أن يملك حزب الله قدرة تكنولوجية وعسكرية، بهذا المستوى، وأن يتمتع كوادره بكفاءات تمكنهم من استخدام ناجع لهذه التكنولوجيا، بل اعتبر ذلك خارج تصورات قيادة البحرية آنذاك. واعترف بذلك قائد سلاح البحرية في حينه، اللواء ديفيد بن بعشط، الذي رأى «أننا كنا أسرى الفهم الخاطئ». ومن أبرز دلالات استهداف البارجة «ساعر»، التي كانت تملك إسرائيل منها ثلاث قطع، أنها تشكل العمود الفقري للقوة البحرية الإسرائيلية، وتم بذلك تحييد سلاح البحرية منذ بداية الحرب، بالمعنى الاستراتيجي.
على ما تقدم، بدا أنه بعدما بلغ جيش العدو مرحلة الذروة، وبدأ مساره التراجعي على مستوى الجدوى العملانية، أخذ حزب الله بالتصاعد. وبدأت المفاجآت بالتوالي من البحر إلى الصواريخ التي تستهدف العمق الإسرائيلي، ولاحقاً إلى الصواريخ المضادة للدروع، وصولاً إلى التلويح باستهداف تل أبيب في حال استهداف بيروت.
وهكذا ما احتاجت الولايات المتحدة لاكتشافه إلى أسبوعين، كما أقر نائب مستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك اليوت إبرامز، بالقول: «الواقع الجديد بدأ يتضح بعد مرور أسبوعين على بدء الحرب، وعجز الجيش الإسرائيلي عن إلحاق الهزيمة بحزب الله، بخلاف ما توقع الجميع». كان حاضراً لدى قيادة حزب الله في الأيام الأولى، بل إن الامين العام لحزب الله، سبق أن أوضح قبل حرب عام 2006، في إحدى الجلسات الداخلية، ما معناه أنه خلال الحرب المقبلة، «إذا ما استطعنا تجاوز الضربة الإسرائيلية الأولى، وبقينا نملك المبادرة، فذلك يعني أننا سننتصر في المعركة»… وهذا ما حصل فعلاً