مقاربتان عربية وغربية مختلفتان: إطلاق يد أم تحوّلات في التحالفات؟
اتفاق 5 + 1 مع إيران: حروب بعنوان مذهبي لأمد طويل!
طهران تركِّز اهتمامها على «سوريا المفيدة» من الساحل إلى القلمون مروراً بالعاصمة دمشق
يشكل الاتفاق حول الملف النووي الإيراني بين طهران والغرب إيذاناً ببدء حقبة جديدة في المنطقة، أولى تجلياتها عودة إيران إلى الحظيرة الدولية، وما يفتحه رفع العقوبات عنها من أبواب لعودتها، وهي البلد الغنيّ بالنفط والغاز، إلى الاقتصاد العالمي وإلى جذب الاستثمارات الخارجية بوصفها أيضاً سوقاً استهلاكية كبيرة تقارب الـ80 مليون نسمة. على أن هذا الاتفاق التقني ليس سوى اتفاق مرحلي يتراوح بين 10 إلى 15 سنة لجهة تجميد برنامج إيران النووي من دون تفكيك البنية التحتية له، مقابل الإفراج عن عائداتها المالية المجمّدة المقدّرة بنحو 150 مليار دولار، وما يتيحه ذلك من إمكانات مالية غير مشروطة يمكن توظيفها في مشروعها السياسي لتعزيز دورها كقوة إقليمية وازنة في المنطقة.
في القراءة السياسية، أن الاتفاق لم يُفضِ فحسب إلى الاعتراف بدور إيران الإقليمي بل أطلق يدها في المنطقة بغطاء أميركي – غربي، كنتيجة حتمية لتحوّل استراتيجي في التحالفات، بحيث أضحى الرهان على شراكة مع الحليف الشيعي على حساب الحليف السني في المنطقة، الأمر الذي يدفع بالمحللين إلى الاستنتاج أن الاتفاق يشكّل ضربة للدول العربية، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية القوة الأبرز في وجه إيران.
وإذا كان رهان الرئيس الأميركي باراك أوباما على أن الاتفاق سيؤول إلى تحوّل داخل المجتمع الإيراني وخلق حيوية جديدة وبروز أصوات معتدلة لها مقاربات مختلفة عن سلوك الطبقة الدينية الحاكمة حيال ملفات المنطقة وأطماعها التوسعية، فإن المتابعين لمسار الجمهورية الإسلامية الإيرانية، منذ نشأتها، يرون أن طهران استثمرت منذ قيام الثورة في العام 1979 في الشيعة العرب من أجل مدّ نفوذها وتوسيع سيطرتها في المنطقة لاستعادة أمجاد الأمبراطورية الفارسية، وليس الملف النووي الإيراني سوى حصان طروادة وورقة المساومة التي تهدف من ورائها اليوم إلى انتزاع اعتراف بأماكن نفوذها التي وَظفت فيها سياسياً ومالياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً، وشرعنة هذا الاعتراف.
فإلى العراق الذي باتت طهران تتحكّم بمفاصل الحكم فيه، وتحريك حوثيي اليمن، والمحاولات الحثيثة للإمساك بورقة شيعة البحرين، والعمل على تحريك شيعة السعودية والكويت، يتمثل النموذج الأنجح للاستثمار الإيراني في «حزب الله» الذي استطاع أن يشكل قوة عسكرية وأمنية وسياسية للنفوذ الإيراني في لبنان، وأمّن حضورها على المتوسط ، وتماساً على حدود إسرائيل بما جعلها عاملاً مؤثراً في استقرار المنطقة. وتشي السياسة التي تتبعها طهران راهناً في الحرب السورية بأن اهتمامها ينصب على «الجزء المفيد من سوريا» والذي يخدم مشروعها، وهو الجزء المتمثل بالشريط الممتد من الساحل السوري إلى منطقة القلمون والعاصمة وربطاً بالحدود اللبنانية عن طريق البقاع. ولا يقتصر الاهتمام على تأمين السيطرة العسكرية على تلك المنطقة بل يتعداها إلى استثمار عقاري واقتصادي وشراء منشآت حيوية وعمليات تطهير عرقي من خلال العمل على تغيير ديموغرافي، بما يضمن نفوذها في ما يصطلح على تسميته بـ «سوريا المفيدة»، وفرض هذا النفوذ أمراً واقعاً مشرعناً يوم يحين وقت التسوية في سوريا.
وفي وصف أحد المحللين أن «سوريا المفيدة» - سوريا الغربية الممتدة من الحدود التركية ومعها الساحل السوري موطئ القدم على المتوسط - يشكل مرآة للجزء اللبناني الذي استثمرت فيه إيران الممتد من الحدود مع تركيا ومعها الساحل الجنوبي، وكلا الساحلين يختزنان ثروة نفطية.
على أن تحقيق تلك الأطماع التوسعية التي تسعى إيران إلى تحويلها واقعاً معترفاً به دولياً، متكئة على مفاعيل الاتفاق النووي، وتحالف مصلحي مع أميركا والغرب عنوانه الحرب على الإرهاب، يبقى رهن المسار الذي سيسلكه التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية. فالرياض بقيادتها «عاصفة الحزم» في اليمن شكلت نقطة تحوّل في آليات مواجهتها للأخطار والتحدّيات التي يفرضها المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة ومحاولات تطويقها، ومساندتها الثورة السورية جزء من مشروع المواجهة هذا، تماماً كما مشاركتها في التحالف الدولي لمواجهة «داعش» في العراق، مع تأكيدها على أهمية تصويب العملية السياسية الذي يصبّ في هذا الإطار، ودعمها السياسي للبنان والرهان على تقوية مؤسساته الدستورية والأمنية هدفه منع سقوطه في الفوضى ووقوعه الكلي تحت سيطرة «حزب الله».
إلا أن هذا التحوّل، وإن أفضى إلى فرملة الاندفاعة الإيرانية لبعض الوقت، لا يُعتبر من وجهة نظر المراقبين كافياً إذا لم يتم رفده بمشروع سياسي متكامل ذي بعد استراتيجي عربي قادر على توفير سبل المواجهة المطلوبة ولأمد طويل، ذلك أن الاعتقاد السائد لدى الدوائر السياسية الإقليمية بأن الاتفاق النووي شرّع الأبواب لاستعار التوترات في المنطقة وفي أماكن الصراع، وأطال أمد الحروب فيها، التي ستشهد في المرحلة المقبلة مزيداً من الدموية بعنوان مذهبي، ذلك أن كلا الطرفين لن يستسلما بسهولة. فلا إيران التي وظفت في مشروعها على 35 عاماً من أجل مد نفوذها ستـتراجع اليوم، وهي التي تَعتبر أنها نجحت في جر واشنطن والغرب إلى الاعتراف بها دولة محورية في المنطقة، ولا الدول العربية ذات البعد الإسلامي السني الغالب عدداً سوف تسلّم بالنفوذ الإيراني وبأن تتحول طهران إلى شرطي أميركي في المنطقة.
أمد المواجهة سيكون طويلاً، ولسنوات قد تصل إلى مدة الاتفاق نفسه، لكن الرهان العربي على إدارة جديدة أميركية ستكشف في قابل السنوات أن مقولة ان الاتفاق يخفف التوترات ويحجب استمرار الحرب المذهبية مقولة واهية، ما يعني أن الاتفاق، بما خرج به من نتائج، هو اتفاق خاطئ لن يصمد ويدوم.