من غير المستبعد استغراق مبادرة الرئيس سعد الحريري في رقاد طويل قبل ان تفيق البلاد على صدمة انتخاب رئيس. اي صدمة، بمَن وبأي رئيس؟ حتى ذلك الوقت يلبث النائب سليمان فرنجيه بين حلفائه من غير كتم تصدّع اصابهم
عني كل ما شاع عن اجتماع باريس في 17 تشرين الثاني بين الرئيس سعد الحريري والنائب سليمان فرنجيه انهما ابرما تسوية مزدوجة: فرنجيه رئيسا للجمهورية والحريري رئيسا للحكومة. مذ ذاك، لم يعد اي حديث عن هذه التسوية يفصل ايا من الشقين عن الآخر. يصلان معا الى حكم حقبة ما بعد الشغور الرئاسي او لا يصلان ابدا.
وعلى وفرة الاحاديث التي تناولاها في اجتماع باريس، وتطرقهما الى مبادىء محددة يتعهدان العمل معا على تحقيقها، هي في احسن الاحوال عناوين مرحلة ما بعد انتخاب نائب زغرتا رئيسا للجمهورية ومن ثمّ ــــ كاستطراد مكمّل له ــــ تسمية الحريري في العودة الى السرايا، شاء كل منهما ان يتلو على مسمع الآخر تأكيد ثوابته التي لا يتزحزح عنها. تمسك فرنجيه بخياراته السياسية التي لا يحيد عنها، وهي علاقته الاستراتيجية بالرئيس السوري بشار الاسد والمقاومة، ورد الحريري بدوره بتأكيد خياراته التي لا يحيد عنها ايضا وهي تحالفه الاستراتيجي مع السعودية ورفاقه في قوى 14 آذار، بيد انه قال لمحاوره ما وصفه بـ «القيمة المضافة»، وهو احترامه علاقاته وتعلقه بأصدقائه وحلفائه، ورغبته واياه في وضع الخلافات السياسية جانبا والعمل معا على انقاذ البلاد ودستور اتفاق الطائف.
انتهى التفاهم الى ما عُد من باريس الى بيروت «تسوية»، غير مفهومة، تجعل من الرجلين ــــ وكلاهما في معسكر مناوىء للآخر ــــ مرشحين توافقيين لرئاستي الجمهورية والحكومة يداً بيد، من غير ان يتخلى اي منهما عن حلفائه الاقليميين والمحليين. بل اوحيا، في الايام الاولى بعد الكشف عن هذا التفاهم، انه ثمرة خياراتهما الاقليمية التي استقرّت عليهما لآلة حكم لبنان. كرّسا اذ ذاك قاعدة جديدة في ادارة الخروج من الشغور الرئاسي والإنتقال الى السلطة الجديدة: رئيس للجمهورية من قوى 8 آذار في مقابل رئيس للحكومة من قوى 14 آذار، على انقاض قاعدة سابقة سوّق لها تيار المستقبل مذ بدأ يتحدث في مرحلة الشغور عن «رئيس توافقي» ذي مواصفات لا تنتمي الى اي من الفريقين المتنازعين، يوازن ما بين رئيس لمجلس النواب من فريق 8 آذار ورئيس للحكومة من فريق 14 آذار.
في حصيلة ما اتفقا عليه في باريس وعجزا عن امراره لدى حلفائهما، بات اتفاق الرجلين اكثر من مجمّد ومؤجل. وربما يتعذّر تعويمه مجددا اذ تأكد افتقاره الى تأييد اقليمي مزدوج يمثله في الخارج ما يمثله في الداخل. وهو وجود تلاق سعودي ــــ ايراني على اخراج الرئاسة اللبنانية من مأزق الشغور. اول مَن بادر الى نعي الاتفاق ضمنا وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، قبل ايام، بنفيه علاقة طهران بالتسوية تلك، ما عنى انها اقتراح من طرف واحد. بذلك ميّزت الدولتان الجاران العدوتان بين تفاهمهما المضمر على تحييد لبنان عن الحرب السورية وعدم انتقال نزاعهما المستعر فيها الى ساحته السنّية ــــ الشيعية، وبين خلافهما على استحقاق رئاسي لا يزال بالنسبة اليهما قادرا على احتمال مزيد من الوقت والانتظار. اذ تكمن الاهمية المضاعفة لانتخاب الرئيس، يوما بعد آخر، في الدولة التي يسعها منفردة تسمية الرئيس اللبناني. بل لم يعد في الامكان توقع استئثار دولة واحدة باختيار الرئيس على نحو ما اعتاد عليه اللبنانيون في العقود الاخيرة. كمنت السابقة في الطريقة التي اتبعت في اختيار قائد الجيش العماد ميشال سليمان عام 2007 مرشحا توافقيا للرئاسة مع وقف التنفيذ ــــ للمفارقة هي نفسها مع فرنجيه من خلال العرابين اياهما الحريري والنائب وليد جنبلاط ــــ الى ان حان اوان تسوية فعلية وإن موقتة يشترك فيها اكثر من دولة بغية اخراج انتخابه. وهو ما انجزه اتفاق الدوحة السنة التالية.
ومع ان فرنجيه يظل مرشحا محتملا يصعب اقناعه بتخليه عن تفاهمه مع الحريري، على ان ما افضى اليه اجتماعه بالامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله منتصف الاسبوع الماضي اعاد مبادرة الرئيس السابق للحكومة الى النقطة الصفر، وهي ان اولوية التفاوض والاختيار والمفاضلة لا تزال حتى اشعار آخر للرئيس ميشال عون. واقع الامر انه اعاد ايضا فرنجيه الى داخل فريق 8 آذار، وحمله ضمنا على التخلي عن مقاربة كان قد وضعها بعد رجوعه من باريس، وهي تسليمه بأولوية التفاوض مع عون كمرشح اول شرط عدم حرمان مرشح آخر في التحالف نفسه من حظوظ الوصول الى الرئاسة.
لم تفضِ خلاصة اجتماع فرنجيه بنصرالله سوى الى تأكيد ما كان يتوقعه عون، منذ اللحظة الاولى لعلمه بترشيح فرنجيه، من حزب الله. وهو استمرار وقوفه الى جانبه وتمسكه بترشحه للرئاسة خيارا وحيدا للحزب وحلفائه الى امد غير محدد. مَن اصغى في الايام الاخيرة الى رئيس تكتل التغيير والاصلاح، قبل استقباله فرنجيه في الرابية ثم بعد هذا اللقاء، يسمع منه عبارة واضحة ودالة دونما اسهاب في التفاصيل: «انا والسيد نفهم على بعض».
لكن ثمة عبارة اخرى اكثر دلالة وعمقا في مغزاها الديني والسياسي على السواء، قالها نصرالله في معرض تأكيد تمسكه بعون مرشحا اول للحزب هي ان «اسم ميشال عون مكتوب على كفني».
عبارة كهذه تعني ان لا مرشح للحزب سوى صاحب هذا الاسم فقط، وإن وجد في نائب زغرتا الكثير الكثير الذي يطمئنه اليه، ولا يعثر عليه في حليف قديم موثوق به آخر.