إستمرّ منسوب التفاؤل بالارتفاع بعد توقيع الاتفاق النووي النهائي بين طهران وعواصم الدوَل الستّ، حتى كلام المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيّد علي خامنئي الذي حملَ مواقف قوية ودعوةً إلى الاستمرار في مواجهة السياسة الأميركية وجِدَ له تفسيرٌ إيجابيّ لدى الأوساط الديبلوماسية الأوروبّية.
إيران تفَضّل طرحَ الملفّ اللبناني في الآخِر، وباريس تراه الأوّلَ والأقلَّ تعقيداً إعتبَرت الأوساط أنّ خامنئي الذي أشرَف وشاركَ، ولو من بَعيد، في مراحل المفاوضات كافّة وصولاً إلى التوقيع، إنّما يريد بمواقفِه هذه استيعابَ وامتصاصَ معارضة شريحة المتشدّدين الرافضة الاتفاقَ وأيَّ اتّفاق في المطلق، والتي تُعتبَر جزءاً مِن المجموعات التي تدين له بالولاء المباشر.
ولفتَت هذه الأوساط في معرض تأكيد تفسيرها إلى أن لا بدّ مِن الوقوف أيضاً عند الكلام الصادر عن الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني بعد صدور الاتّفاق الداعي إلى فتح الملفّات الصعبة في المنطقة وحَلِّها بالحوار والتفاوض.
صحيح أنّ روحاني آتٍ من التيّار الإصلاحي، وصحيح أيضاً أنّ نفوذَ المرشد يَبقى هو الأقوى على مستوى القرار الإيراني، لكنّ العواصم الغربية لمَست بوضوح أنّ أسلوب روحاني في العمل كان على أساس التشاور إلى حدّ التكامل مع خامنئي، أضِف إلى ذلك دقّة المرحلة وأهمّيتَها التاريخية، ما يَعني حتمية التفاهم بين المسؤولين الكبار، خصوصاً في بلدٍ مثل إيران حيث مؤسسات الدولة موجودة وتعمل، والحِسّ الوطني الداخلي عالٍ.
وفقَ هذا المبدأ تستمرّ الدوائر الغربية في تحضير ملفّاتها حول المنطقة. بالتأكيد ستمسِك واشنطن دفّة القيادة كالعادة، لكنّها ستترك هامشاً لا بأس به لحلفائها الأوروبيين، ولا سيّما منهم لندن وباريس صاحبتا الخبرة التاريخية في الاضطلاع بالقُطَب المَخفيّة وخلفيات النزاعات، خصوصاً أنّهما كانتا مَن توَلّى رسمَ خرائط سايكس – بيكو.
ولا حاجة إلى كثير من الجهد للاستنتاج أنّ شيئاً ما بَدأ يتغيّر منذ حصول الاتفاق. في اليَمن مثلاً وبعد أشهر طويلة من المعاناة العسكرية لحلفاء السعودية بدأت قوّات الرئيس اليمني عبد ربّه منصور هادي فجأةً في استعادة زمام المبادرة في عدن تمهيداً للسيطرة الكاملة عليها ما سيَسمح لها بالجلوس على كرسيّ حول طاولة المفاوضات.
وفي العراق وصَلت دفعةٌ من الطائرات الحربية الأميركية إلى الجيش العراقي، في مؤشّر إلى بَدء تزويد هذا الجيش بالسلاح النوعيّ الذي يحتاجه في معاركه.
يَعتقد البعض، وخِلافاً لما هو رائج، أنّ العراق سيكون الملفّ الأوّل الذي سيَخضع لمشرحة التسويات، ذلك أنّ واقعَه أصبح ناضجاً بفعل بُرَك الدم على مرّ السنوات الماضية ولو أنّه قد يحتاج إلى بعض المعارك لتثبيت الواقع النهائي.
ففي العراق لم يعُد للسعودية من مشروع، بل فقط تأمين موقع للسُنّة داخل السلطة التي بدأت تتشكّل منذ فترة تحت عنوان محاربة الإرهاب. وانطلاقاً من المبدأ نفسِه سيتمّ التعامل مع بقيّة الملفّات من خلال تشكيل ائتلافات لمحاربة الإرهاب يكون لاحقاً نواةَ السلطة التي ستتوَلّى إدارة البلاد.
وفقَ هذه الصورة، هناك مَن يقول إنّ إيران تريد أن يكون لبنان آخرَ ملفّ يُطرَح، كون لا معنى لأيّ تسويةٍ فيه في حال بقيَ النزاع في ساحةٍ ما في الشرق الأوسط، في مقابل رأي موجود لدى الفرنسيين خصوصاً يقول إنّه يمكن إنجاز الملف اللبناني قبلَ غيرِه بسبَب قلّة تعقيداته قياساً إلى الملفّات الأخرى.
لكنّ العواصم الغربية تدرك جيّداً أنّه لا يمكن إنجاز أيّ تسوية في أيّ ملفّ في الشرق الأوسط لا تحظى برِضى دوَل عدّة لديها تأثير مباشَر فيها، ولو بدرجات متفاوتة، وهي إيران والسعودية وتركيا ومصر وروسيا، إضافةً إلى إسرائيل، ولو من خلف الستارة.
وفيما تربط روسيا بين دورها الكبير، خصوصاً في الملف السوري، وبين أزمةِ أوكرانيا التي تؤلِمها، بَرَز توَجُّه أوروبّي لاستكمال الاتفاق الذي عُقِد مع إيران وفقَ صيغةٍ مقتبَسة عن اتفاق «هلسنكي» الذي وُقِّع منذ أربعين عاماً في الأوّل مِن آب 1975.
هذا الاتّفاق الذي سعى إلى تنظيم العلاقة بين الدوَل الأوروبّية الغربية والشرقية آنذاك، إضافةً إلى حلّ المشكلات بين الغرب والشرق، دعا يومَها في بندِه الرابع إلى ضرورة الربط بين الأمن السياسي والعسكري وبين أمن كلّ دولةٍ مِن دوَل المؤتمر وأمن القارّة الأوروبية، والربط بين أمن القارّة الأوروبية والأمن العالمي وأمن منطقة البحر المتوسط، وتأكيد أهمّية المفاوضات وسيلةً لتسوية الخلافات.
هذه الاتفاقية تمَّ «تحديثها» عام 1995 من خلال منظّمةٍ عُرفت بـ»OSCE»، وتستعدّ الدوائر الغربية لاستكمال اتفاقها التاريخي مع إيران انطلاقاً مِن روحيّة «هلسنكي» وبمشاركة الدوَل المؤثّرة في ملفّات الشرق الأوسط.
لكنّ الأهمّ أنّ هذا الاتفاق رفض يومها أيَّ لعبٍ بالحدود القائمة في الشرق الأوسط، ما يَعني أنّ أيّ تفاهمات على مستقبل المنطقة لن تلحظَ سقوط حدود سايكس- بيكو وسط الهزّات الكبيرة التي سادت المنطقة وحدودها منذ نجاح تنظيم «داعش» في إقامةِ «دولته» في العراق وسوريا.
لكنّ تثبيتَ حدود سايكس – بيكو مسألة لا علاقة لها بالأنظمة التي سيتمّ التفاهم عليها داخلَ الدوَل، مثل الفدرالية ومدى استقلالية الكيانات داخل الدولة الواحدة وفقَ نظرية الأخوة – الأعداء. لكن هذا سيعني مثلاً أنّ الكيان الكردي سيكون محصوراً بكردستان العراق فقط، فيما أكراد سوريا وأكراد تركيا لا بدّ مِن إيجاد صيغة أكثر ملاءمة لهم ولكن ضمن حدود وسيادة الدولة التي ينتمون إليها.
مشاريع كثيرة قد تكون لا تزال بحاجة إلى بعض الحماوة ولفترةٍ مِن الوقت بهدف ترتيب الواقع أكثر وإنهاك القوى أكثر.