IMLebanon

الاتفاق الفضيحة ..  انتصار للدويلة على الدولة

يتردّد على لسان كل لبناني السؤال الآتي: لماذا نأت الدولة بنفسها عن تحرير جرود عرسال من مسلّحي «جبهة النصرة» وتركت هذه المهمة لميليشيا طائفية لها أجندة إقليمية من بنودها ربط مناطق النظام السوري بمنطقة البقاع ذات الغالبية الشيعية الموالية لها، بينما سمحت للجيش اللبناني بتحرير جرود رأس بعلبك والقاع من مسلحي تنظيم «داعش»؟ وكان من المفروض أن يقوم الجيش اللبناني بتحرير جرود عرسال، كون تحرير أرض الوطن من الإرهابيين، أياً كانوا، وحماية اللبنانيين يقعان على عاتقه.

وقيام ميليشيا «حزب الله» بمهمة تحرير الجرود لأهداف في مجملها غير لبنانية، كان وصمة عار على جبين الدولة، لتخاذلها عن تحمّل مسؤولياتها وتجييرها قرارا سياديا إلى حزب يشكّل جزءاً رئيسياً من محور إقليمي تتعارض أهدافه مع أهداف لبنان الوطنية. والمستهجن في الأمر تبرير الدولة بعدم إعطاء الأمر لجيشها لتحرير الجرود كان من أجل المحافظة على حيوات أهل عرسال والنازحين السوريين المقيمين في المخيمات المحيطة بالبلدة، وكأنّ الحزب هو أكثر حرصاً عليهم من الدولة، التي من مسؤولياتها حماية مواطنيها والمقيمين على أرضها، فهل ما جرى كان خطأً لدى السلطة السياسية في مقاربة الأمور أو تضارباً في المواقف بين أركانها؟

حسناً تداركت الدولة الأمر باستعادة قرارها السيادي والإيعاز إلى الجيش اللبناني بتحرير جرود رأس بعلبك والقاع من مسلحي تنظيم «داعش»، حيث أثبت الجيش في عملية «فجر الجرود» عن مهنية وكفاءة عاليتين، وكان الإلتفاف الشعبي الجامع حوله دليلاً على ثقة اللبنانيين بقيادته وبقدراته، وأملاً بأن يشكل انتصاره بداية لبسط الدولة سلطتها على كل الأراضي اللبنانية، وحصرالسلاح بيده ويد القوى الأمنية.

يسير «حزب الله» بخطى ثابتة في تحقيق مشروعه الذي يشكّل جزءاَ من مشروع راعيته الإقليمية إيران، التي تشرف عليه وتدعمه بالمال والسلاح. وأساس المشروع الإيراني تصدير ثورة الخميني إلى خارج إيران وخصوصاً إلى الدول العربية ومنها لبنان، وإقامة الهلال الشيعي الممتد من طهران إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط مروراً بالعراق وسوريا. ويتبع «حزب الله» استراتيجية متحركة في تحقيق مشروع طهران التمددي في المدى المنظور، وتنفيذ مشروعه الداخلي في المدى البعيد وهو بأن يكون لبنان جزءاً من الجمهورية الإسلامية بقيادة الولي الفقيه في طهران، كما جاء على لسان أمينه العام حسن نصر الله لدى انطلاق مسيرة الحزب.

وأدّى تجاهل معظم القوى السياسية المشاركة في السلطة لمشروع «حزب الله» في لبنان، القائم على استتباع الدولة، إما عن عدم مبالاة أو بسبب سياسة «ربط النزاع» التي يتبعها البعض وما نتج عنها من تنازلات وتراجعات، وإما نتيجة تواطؤ البعض الآخرفي تسليم الحزب المستتبَع لأجندة خارجية مقادير البلاد، إلى تقدّم مشروع الحزب على مشروع الدولة. وأصبح الحزب الحاكم الآمر والناهي في لبنان، يتحرك مقاتلوه بأسلحتهم وآلياتهم العسكرية داخل لبنان وعبر الحدود مع سوريا من دون رقيب أو حسيب، مستنداً إلى قوته الذاتية وإلى بيان وزاري مبهم يغطّي سلاحه بصفته سلاحاً مقاوماً للعدو الصهيوني، وليس كما هو الحال اليوم يُستخدم في الاستقواء على الجميع في الداخل اللبناني، وفي قتل الشعب السوري المنتفض على رئيسه ونظامه.

أما عن أصوات المعارضة لمشروع الحزب من داخل المؤسّسة الحاكمة فإنها خافتة وخجولة، ما يزيد من إحباط اللبنانيين الرافضين لمشروع الحزب ولسيطرته على قرار الدولة ومقدراتها. وبات الحزب، بفضل التجاهل والتواطؤ والتراخي، يفرض إملاءاته على الدولة، غير مكترث لكل ما يُكتب أو يُقال عن تصرّفاته التسلطية وولائه لنظام إقليمي مذهبي يعمل على تفتيت المنطقة العربية، معتمداً في ذلك على اصطفاف غالبية طائفته وراءه، ودعم حلفائه في الداخل وفي مقدّمهم رئيس الجمهورية ميشال عون الذي استمر على تحالفه الوثيق معه يؤمن له التغطية الرسمية لسلاحه ولقتاله في سوريا.

وبدأ الحزب في الآونة الأخيرة العمل على تعويم النظام السوري من خلال الضغط على الحكومة اللبنانية للتفاوض مع هذا النظام بشأن عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، وفرضه التنسيق القسري بين الجيش اللبناني وجيش النظام السوري في معركة جرود عرسال التي قام بها الحزب واستغل نتائجها في تقوية موقعه في الداخل اللبناني، مع العلم بأنّ أهداف المعركة «المسرحية» كانت بمعظمها إيرانية. واستخدامه ملف العسكريين المختطفين لدى تنطيم «داعش»، وهو ملف وطني وإنساني بامتياز، بالطلب من الحكومة اللبنانية تفويض دمشق علناً وبصورة رسمية التفاوض مع الخاطفين من أجل كشف مصيرهم ومقايضته باسترداد أسيره وجثامين قتلاه وقتلى إيران.

وبينما كان الجيش اللبناني على وشك القضاء على الإرهابيين بعدما حاصرهم في بقعة صغيرة، إذ بالسلطة السياسية الحاكمة تقع في كمين نصبه لها «حزب الله» فتوافق على اتفاق عقده الحزب مع «داعش»، يلبي مطالب الحزب ويحمي عناصر التنظيم الإرهابي من المساءلة وإن كان في أحد بنوده كشف مصير العسكريين الأسرى. وكانت ذريعة الدولة التي دفعتها إلى الموافقة على الاتفاق بأنّه حفظ أرواحاً للجيش كانت ستسقط في المرحلة الأخيرة من معركة الجرود، وأمّن استعادة جثامين شهداء الوطن وتحرير الجرود من الإرهابيين. في المقابل، إنّني أعتبر مع كثيرين غيري أن الاتفاق كان فضيحة مدوية، ونكسة للجيش بمنعه من إنجاز انتصار كامل على الإرهابيين يمكنه من تحرير كل الأرض وكشف مصير العسكريين المختطفين، ووصمة عار على جبين الدولة بسماحها لقتلة العسكريين بمغادرة البلاد من دون مساءلة ومحاكمة، وتفريطاً بدماء الجنود الذين استشهدوا دفاعاً عن الوطن، وإهانة للكرامة الوطنية، وانتصاراً للدويلة على الدولة.

إنّنا ندرك تماماً أن وضع لبنان مرتبط بالأوضاع المأزومة في سوريا وفي الإقليم، وأنّ وضعه النهائي ووضع «حزب الله» سيتحددان في التسويات الجاري إعدادها بين واشنطن وموسكو لكل أزمات الإقليم وفي مقدمها الأزمة السورية. ولكن وحتى ذلك الحين يتوجب على رافعي راية السيادة والقرار الوطني الحر التصدي للسلطة السياسية المتخاذلة والمتواطئة، والصمود في وجه الحزب المستقوي والمستأثر، ومتابعة التحرك في الداخل والخارج من أجل الحفاظ على الدولة التعددية واستردادها من مغتصبيها.