جمعية التجارة العادلة تُدخل “المونة” البيتية التقليدية إلى النظام الغذائي العالمي
مع إنهيار الليرة مقابل الدولار وفقدانها ميزتها الاستيرادية، لم يعد شراء السلع الجاهزة أوفر من إعدادها. فـ”الفرنجي” في ظل سعر صرف 8900 ليرة لم يعد “برنجي”، بل ترفاً لا قدرة لأكثر من نصف اللبنانيين على تحمله. الاتّكال على الذات والانتقال إلى توسيع مساهمة القطاعات الانتاجية في الاقتصاد أصبح فجأة جزءاً من الحل؛ ولكن كيف؟ وهل تكفي الدعوات الشعبوية للعودة إلى الانتاج الزراعي، أم ان إعداد قوت يومنا يتطلب مقاربة جديدة؟
لسنوات طوال ظل النهج القائم على امتصاص آخر دولار أتاحته بدعة تثبيت سعر الصرف هو المسيطر. فعملتنا “القوية” سمحت لاقتصاد بحجم 52 مليار دولار أن يستورد سنوياً بما يفوق 18 ملياراً من الخارج أي بنسبة 34 في المئة من حجم الاقتصاد. وطالما كانت الدولارات متوفرة فلا داعي للزراعة التي “لا تأتي بهمها”. فأهملت كبقية القطاعات المنتجة. ولم تلتفت السياسات الاقتصادية العامة إلى تطويرها وتوسيع آفاقها والاستفادة من ميزاتها التفاضلية، وتحديداً في ما خص قدرتها على المنافسة في الاسواق الخارجية. قلة مهتمة تتمثل باختصاصيين وأصحاب خبرات لحظت في القطاع الزراعي عام 2006 فرصة تستحق التوقف عندها. وعلى الرغم من الانقسامات الافقية والعمودية في تلك الفترة، فقد استفادت هذه القلة من خبرات مجمعة في أوروبا لنقل تجربة الـ Fairtrade المنتشرة على نطاق واسع في الخارج، وتأسيس “جمعية التجارة العادلة” في لبنان. وكان الهدف مساعدة المزارعين في مواجهة التجارة التقليدية، التي لا تهدف في كثير من الحالات إلا إلى الربح على حساب القيم الانسانية والعدالة الاجتماعية.
الخروج من عنق الزجاجة
“أكثر ما لفتنا هي المبادئ العشرة التي تقوم عليها أسس جمعية التجارة العادلة”، يقول رئيسها سمير عبد الملك. “ومنها تأسيس التعاونيات بشكل ديموقراطي يقوم على حق الترشح والانتخاب وبرامج العمل. ومن دون تفرقة دينية أو “جندرية”. ومع التشديد على منع عمالة الاطفال، والالتزام باقصى درجات الشفافية في الادارة، والمحافظة على البيئة”. يقضي عمل “الجمعية” في تقديم كل انواع المساعدة للجمعيات التعاونية حيث توجد، والعمل على تأسيس تعاونيات جديدة. وبحسب عبد الملك فان “الهدف لم يكن تكرار ما فعلته أو تفعله الجمعيات المساعدة، سواء كان ذلك على مستوى التدريب أو التجهيز أو خلافه، إنما إخراج التعاونيات من عنق الزجاجة المتمثل في عدم قدرتها على تسويق المنتجات”.
ضعف القدرة على بيع الانتاج سواء كان سلعاً زراعية بشكلها الخام أو صناعات غذائية ومونة بيتية ومنتجات عضوية… كان السبب الاول في إقفال التعاونيات وترك العمل الزراعي، والبحث عن وظيفة لتأمين لقمة العيش. فيما هذه المنتجات تمثل قيمة مضافة عالية جداً، والطلب عليها في السوق الداخلي والاسواق الخارجية كبير. “إنما العبرة تكمن في التسويق”، بحسب عبد الملك. “وهنا بدأ العمل على خطين متوازيين. تمثل الاول بمطابقة الصناعات الغذائية المحلية، أو ما يعرف بالمونة البيتية والمربيات، مع المواصفات العالمية لجهة مراعاة الجودة والنوعية وطريقة التغليف والتعليب والحصول على الشهادات الصحية. أما الخط الثاني فكان التواصل مع الجمعيات المشابهة لنا في الاهداف في الخارج لتوسيع انتشار هذه السلع في الاسواق العالمية”. هذه الاستراتيجية أدت إلى التعاون مع 200 تعاونية زراعية أصبحت تشغّل اكثر من 10 آلاف مزارع وحرفي وربة منزل بشكل مباشر. أما المفاجأة فكانت في حجم المبيعات السنوي الذي بلغ 1.5 مليون دولار وذلك مع العلم ان المنتجات بسيطة وأسعارها غير مرتفعة.
من مونة بيتية إلى منتجات عالمية
من قريتي القوزح وحريص المشهورتين بأطيب خلطة زعتر بلدي، و”دقة الكموني” (برغل وبهارات) و”الفريكي (قمح) في جنوب لبنان، مروراً بالبقاع الغربي ومربيات المحيدثة التي تسوق كتحلية رئيسية في أحد أهم المطاعم اللبنانية على مدار العام، وصولاً إلى منجز العكارية الضيعة النموذجية التي تمتاز في الزراعات العضوية بنسبة 100 في المئة، وحصارات الجبيلية وصابونها البلدي المشابه لمنتجات “مرساي” الفرنسية.. نماذج تظهر مدى التطور والتحديث الذي أدخل على الانتاج التراثي المتناقل من جيل إلى جيل. فالمنتجات الغذائية التقليدية لم يعد يتمّ تبادلها بين الجيران، إنما لاقت طريقها إلى أكبر المتاجر والمطاعم المحلية، وحجزت مكاناً لها على رفوف أرقى الأسواق العالمية.
“الأمور لم تتوقف عند هذا الحد”، يعلّق عبد الملك، بل ان “التجربة المميزة مع التعاونيات الزارعية تأخذنا إلى دير الأحمر ومجموعة من القرى البقاعية التي انتقلت في السنوات الاخيرة من زراعة الحشيشة غير المشرعة وقتها، إلى زراعة الكرمة وتصدير الانتاج إلى أهم معامل النبيذ العالمية والمحلية”. وبالفعل فقد جرى تأسيس تعاونية “هيليوبولس” (نسبة الى بعلبك)، وانشاء ماركة نبيذ خاصة بها تباع في أوروبا واليابان. وبرأي عبد الملك فان “التوسع في فتح الاسواق الخارجية يمكّننا من زيادة الانتاج المحلي من النبيذ بمقدار 5 أضعاف”. وهذا ما يعني إستثمار المزيد من الاراضي، وتشغيل المزيد من اليد العاملة، وزيادة المردود المادي بشكل كبير على مئات العائلات. ولضمان الاستمرارية في الانتاج والتوريد “نعمل حالياً على خلق “كلاسترز”، أو ما يعني تجميع المنتجين في وحدات مشابهة. ويجري اليوم تطوير 7 وحدات انتاجية في مختلف المناطق اللبنانية.
فتح عيون المنظات الدولية
الدور المهم الذي لعبته “جمعية التجارة العادلة” هو في تشكيلها مركز استقطابٍ للمساعدات الخارجية. فالمنظمات الدولية التي تبحث عن شركاء موثوقين في لبنان من أجل ضمان وصول مساعداتها الى الجهات التي تستحق وجدت في الجمعية خير شريك. فتم التعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة UN WOMEN لتدريب السيدات اللبنانيات والسوريات على تحضير الغذاء. الأمر الذي سمح للسيدات السوريات باطعام عائلاتهن ومساعدة التعاونيات في انتاج الغذاء الصحي والسليم. كما تعمل “الجمعية” على تنسيق التعاون بين المؤسسة الالمانية للتعاون الدولي GIZ، التي تساعد 25 مدرسة، والتعاونيات اللبنانية، من أجل انتاج الغذاء السليم لتغذية الاطفال وتسهيل عودتهم الى المدارس. حيث من المتوقع ان يخدم المشروع في مرحلته الأولى التي تنطلق في أول شباط 6 مدارس، تضم كل واحدة منها 600 تلميذ، ونحو 160 ألف تلميذ في مراحل لاحقة.
تعميم التجربة
هذه التجربة التي تضطلع بها “جمعية التجارة العادلة” تصلح لتكون “نموذجاً يُظهر إيجابيات الانتاج الزراعي ويعممها في مواجهة حملات اليأس والتيئيس المنتشرة على أوسع صعيد”، يقول عبد الملك. “فقيمة الارض التي نملكها ليست ببيعها، إنما باستثمارها. ومن الممكن تعميم النموذج الذي اعتمدناه، ويعتمده الكثير من الجمعيات التي تشبهنا من أجل تحقيق نقلة نوعية في الانتاج الزراعي، وفتح الاسواق أمام هذه المنتجات الصحية والشهية المرغوبة جداً في الخارج. خصوصاً إذا كانت مشغولة بطريقة احترافية. فالاتجاه العالمي اليوم هو لتناول الأكل الصحي والعضوي والتقليدي. وهذا ما نبرع به في لبنان”.