IMLebanon

“أمّة فلّاحين ومعازين”

 

“أُذكُرْ أباك ومعوله ولا تنسى جدتك وموقدتها. ولا تفخر، مهما علا شأنك بين الناس، إلّا بكونك سليل أمّة فلاحين. فلم تتعاط الصناعة إلّا قليلاً، والتجارة إلّا حديثاً، ولم تحمل المارونية السيف، كما حملت القلم دوماً، إلّا مكرهة”. (الأب يواكيم مبارك)

 

أزمة اقتصادية حادة تكاد تلامس الإفلاس وتهدد بالمجاعة، أزمة دولار كبيرة تهدد قدرتنا على الإستيراد، إقفال الحدود البرية والمجال الجوي بسبب الوباء العالمي، الجراد وصل الى الأردن، صفقة قرن… لا، إنّه ليس العام 1916، إنّه عام 2020. وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، وكأننا بعد مئة عام على إنشاء لبنان الكبير عدنا إلى نقطة البداية.

 

أزمتنا ابتدأت منذ حوالى مئة عام، حين بدأنا بالنزوح نحو المدينة، تحديداً بيروت، بحثاً عن فرص أفضل للحياة. فقد بدأنا بتغيير نظام حياتنا المتوارث منذ ما يقارب الـ 1400 سنة، بدأنا “نَستحي” بتاريخنا، أصبح اقتصادنا شاذاً شيئاً فشيئاً، وتحول من اقتصاد منتج إلى اقتصاد ريعي ومستهلك!

 

بتنا نشتري كل شيء، ومع الوقت أصبحنا نستورد على قاعدة “كل شي فرنجي برنجي”؛ تدريجاً اعتُمدت سياسة إقتصادية هجينة انتهجت الريعية والزبائنية وخنقت المبادرة الفردية، هدمت الزراعة والصناعة، وحوّلت لبنان مركزاً للودائع المصرفية والمكرمات والتي تتأثر بالتقلبات السياسية والأمنية.

 

ومع استفحال أزمة الدولار اليوم، بدأت عورات هذه السياسة الإقتصادية تتكشّف شيئاً فشيئاً، فلبنان يستورد بقيمة 20 مليار دولار ويصدّر بقيمة 3 مليارات فقط…

 

إذا تأملنا بهذه الأرقام مالياً، نجد أنّ حوالى 4 مليارات دولار نستوردها للغذاء.

وهنا بعض الأرقام:

يستورد لبنان سنوياً ما قيمته 1.5 مليون دولار من التفاح، مأكولات بحرية بقيمة 20 مليون دولار، أسماك بقيمة 58 مليون دولار، يستورد عسلاً طبيعياً بقيمة 2.9 مليون دولار، وبطاطا بقيمة 31 مليون دولار، وخضاراً بقيمة 23 مليون دولار، وأبقاراً حية بقيمة 383 مليون دولار، 11 مليون دولار مربّيات، غنماً وماعزاً بقيمة 29 مليون دولار، ألباناً وأجباناً بقيمة 58 مليون دولار، بطاطا بقيمة 31 مليون دولار. كما انّنا نستورد 92 % من القمح… وتطول اللائحة…

 

هذا في ما يختصّ بالغذاء، ننتقل لنلاحظ بعض الأرقام المتعلقة بقطاعات أخرى:

نبدأها بالصحة والبيئة، فأكثر من 96 في المئة من سكان بيروت يتعرّضون لتنشّق أكثر من 40 ميكروغراماً في المتر المكعب الواحد من الغازات الملوّثة على مدار السنة، التي تسبّب أمراضاً مميتة تستهدف كل الفئات العمرية، كالسكتات الدماغية وسرطان الرئة.

 

التلوّث أصبح مرئياً، إذ يمكن مشاهدته بالعين المجردة على شكل غيمة داكنة تمتد من ضبية إلى خلدة.

موضوع ثالث طرأ خلال هذه السنوات، وهو موضوع السكن، إذ وصلت أسعار الشقق إلى أرقام خيالية: وصلت إلى حد الـ2500 $ للمتر الواحد في المدن الساحلية، ويرتفع هذا الرقم ليصل إلى حوالى 5000 $ للمتر الواحد في العاصمة، ناهيك عن الإيجارات المرتفعة والمصاريف الإضافية التي تترتّب نتيجة التنقلات وعدّدات المواقف وما الى ذلك.

 

من هنا نستنتج، أننا منذ حوالى المئة عام تركنا قرانا بحثاً عن حياة أفضل، واذ انتهى بنا الأمر الى أن نعيش متقوقعين في مربّعات من الباطون في مدن ملوثة، ندفع 90 % من مدخولنا لقاء سكن، وأشياء كنّا نحصل عليها شبه مجانية في ما مضى…

 

أمام كل هذه السوداوية، هل من حلول معقولة؟ هل من خلاص من هذه الدوامة؟ هنا تتعدد التحاليل والاقتراحات، والحل يبقى بالعودة إلى الجذور. فأجدادنا لم يكونوا خبراء اقتصاديين، ولكن تمكنوا من الصمود طوال 14 قرناً.

 

صمد أجدادنا لأنهم اعتمدوا على نمط اقتصادي عُرف في ما بعد باقتصاد جبل لبنان.

 

 

 

ثلاث ركائز اقتصادية

كان اقتصاد جبل لبنان قائماً على 3 ركائز، هي: تجليل الجبال، الشجرة والعنزة. إقتصاد ليبيرالي يميني قائم على المبادرة الاقتصادية الفردية التي لطالما تميّز بها لبنان.

 

فمنذ أن اعتصم الموارنة في جبال لبنان الصعبة، تأقلموا مع الطبيعة وجَللوا الجبال وزرعوها أشجاراً اختلفت مع اختلاف العصر فكانت حيناً الزيتونة، وحيناً آخر الخرّوبة، إلى أن أصبحت التوتة لتربية دود القز، والتفاحة في آخر 80 عاماً، واستخدموا الماعز الحيوان الحلوب الوحيد الذي يعيش في البيئة الوعرة.

 

في البداية أسّس يوحنا مارون كياناً مستقلاً في جبل لبنان، وكانت الانطلاقة من بلاد البترون وجبّة المنيطرة. فإذا أردنا العودة إلى الجذور، فبلاد البترون تشكل مدماكاً أساسيّاً ونموذجاً يُحتذى به. فهذه البلاد التي تبلغ مساحتها حوالى 278 كلم2، فيها ساحل ووسط وجرد.

 

ماذا يمكننا أن نحقق إذا قمنا بالهجرة العكسية من المدن إلى القرى؟ ما النتائج الآنية والمستقبلية؟

 

من ناحية السكن، تعني العودة إلى القرية توفير كلفة الإيجار، باعتبار أنّ قسماً كبيراً من ساكني المدن يعمدون إلى إيجار شقق، وإذا كان العائدون إلى القرى لا يملكون منازل، فكلفة العمار تتراوح بين 400 و 600 $ دولار للمتر الواحد، أي ثلث كلفة المتر الواحد لشقة سكنية في بناية قي إحدى المدن الساحلية، عدا الراحة النفسية التي تنتج عن كون المنزل سيكون محاطاً بمساحات خضراء.

 

العودة إلى القرى تعني تخفيف التلوث في العاصمة، وتخفيض الفاتورة الصحية على العائدين إلى قراهم حيث سيعيشون وسط بيئة أنظف. وفي دراسة شملت حوالى 100 عائلة تركت المدينة باتجاه قراها، إنخفضت فاتورتهم الصحية ما يقارب الـ 30 %.

 

 

 

خلل في الأمن الغذائي

على الصعيد الزراعي والإقتصادي، نحن اليوم نعاني خللاً في الأمن الغذائي، فأرقام الاستيراد صادمة، وأغلب الأشياء ممكن إنتاجها محليّاً. وهنا نستعرض ما يمكن القيام به على صعيد الإنتاج البيتي، أو الإنتاج المخصّص للبيع.

 

على الصعيد البيتي يمكن استعمال حدائق المنازل الأمامية والخلفية لزرع البقول والحشائش، بالإضافة إلى بعض الخضار، وتربية الدواجن واقتناء خروف وعنزة، فيؤمّن الشخص بالتالي أمن منزله الغذائي من خلال المنتجات الحيوانية (لبن، حليب، كشك…)، منتجات زراعية كمواد أولية (خضار وفاكهة)، أو مواد صناعية-غذائية (مربّى- ربّ البندورة…)

 

بالانتقال إلى الإنتاج المخصّص للبيع، فإنتاجنا الزراعي والحيواني لم يعد منتجاً لأنَّنا انتقلنا إلى الزراعة الموحدة، ولا زلنا نستعمل التقنيات البدائية رغم أنّ الزراعة أصبحت جد متطورة.

 

فبدل استيراد كميات هائلة من الأسماك بينما صيادو الساحل البتروني لا يجدون سبيلاً للعيش، يمكن تطوير تقنياتهم، وإنشاء برَك تنتج الأسماك أو في الملّاحات التي باتت بلا جدوى نتيجة استيرادنا للملح، أو في برك الري…

 

كما يمكن تصنيف الأراضي الزراعية واختيار الزراعات الإستراتيجية بالتعاون مع أصحاب الاختصاص، فالساحل يصلح للوزيّات، الوسط للزيتون والكرمة، والجرود للكرز والتفاح والإجاص.

 

وهنا أيضاً يمكن مَسح المشاعات وتصنيفها واستخدامها لتربية قطعان الماعز والغنم، أو لزراعة القمح أو لزراعة الأشجار الحرجية المنتجة (كالسمّاق والخرنوب…) أو لإنتاج الطاقة المتجددة (علماً انّ هذه التجربة بدأت في بشعلة).

 

أمّا بالنسبة للمونة والصناعات الغذائية، فتشجيع الإنتاج المحلي وخلق سوق محلي وتطوير الإنتاج، وتحديداً مشتقات الحليب، قادر على إنتاج بضاعة توازي بجودتها الإنتاج العالمي.

 

 

 

إقتصاد الموارنة

كان اقتصاد الموارنة سبَّاقاً في نشر اقتصاد المعرفة والتقنيات الحديثة، وما هي القرى النموذجية التي أنشأت في عدد من الدول والتي تدرّ مليارات الدولارات لدولة كإسرائيل سوى استنساخ للقرى المارونية في جبل لبنان.

 

أضف إلى ذلك السياحة، إذ انّ القضاء يزخر بكنوز كثيرة، من قلعة المسيلحة إلى دير مار يوحنا مارون، إلى وادي حربا العبق بالعنفوان الماروني، إضافة إلى الدروب المنشأة حديثاً، كدرب الحويك ودرب المسيلحة…

 

 

 

إعادة إحياء القرى

إذاً، المطلوب هو إعادة إحياء القرى، وإنشاء مؤسسات تتعاطى اقتصاد المعرفة، وتطوير نوعية الإنتاج الزراعي لكي نتمكن من تصديره. ونحن كلنا ثقة أنّ الكنيسة على استعداد لإعادة مبدأ الشراكة مع الشعب، الأمر الذي يحلّ أزمة الإسكان والإنتاج وتخفيف التلوث والزحمة في المدن، ويساهم في تثبيت الناس في أرضهم.

 

يكمن مستقبل لبنان في الزراعة واقتصاد المعرفة والسياحة البيئية والدينية… فلا نفتخر إذاً بعد اليوم، مهما علا شأننا بين الناس، إلّا بكوننا أمّة فلاحين ومعازين، وأنَّ مشكلتنا تنحلّ حُكماً عندما يتصالح تاريخنا مع ذاكرتنا الجماعية.