يعتبر قطاع الزراعة الأول في التراتبية الزمنية لقدمه، علما أن حجمه تقلص نسبيا مع تغير هيكلية الاقتصادات وتطور حاجات الانسان. الزراعة بعيدة عن مركز القرار في العاصمة وبالتالي ينساها السياسيون الذين لا يجدون على أبوابهم الا التجار والمسوقون للسلع والخدمات. ينسون مطالب القطاع الزراعي البعيد الذي لا يرفع صوته، علما أن دوره حيوي ولا حياة من دونه. عالميا القطاع الثالث أي الخدمات يسيطر على كل الاقتصادات وان يكن بنسب مختلفة تاركا الصناعة في المركز الثاني. تطور التكنولوجيا الى حدود مذهلة وامتداد الذكاء الاصطناعي الى كل أنحاء المجتمعات غيرا دور قطاع الخدمات وجعلاه المؤثر الأول على حياة الانسان. اهتمام الانسان بالسياحة والسفر يطغى اليوم على اهتماماته الأخرى من حاجات وسلع منزلية وغيرها.
لا أحد ينكر بالرغم مما سبق أن القطاع الأول الزراعي يبقى الأكثر ضرورة عبر انتاج الغذاء الذي من دونه لا حياة على هذه الأرض. تكتل الغذاء، المياه والمناخ هو المتضرر من التقدم المجتمعي بالرغم من أهميته، وها هو يرفع الصوت محاولا أخذ الحقوق المادية التي يستأهلها. مشكلة القطاع الأول أن اصلاح أضراره تكون مكلفة ولا تعيد الأوضاع الى سابق عهدها ويشهد عليه قطاع البيئة والتلوث المناخي والمائي والهوائي حيث لا عودة الى الوراء بالرغم من كل المؤتمرات والتوصيات والمحاولات.
ما جرى في أوروبا ومنذ وقت غير قصير هو انتفاضة المزارعين على الأسواق وقرارات الحكومات التي في رأيهم تسيء اليهم. تحرك المزارعين مدعوم من المواطنين كما تشهد عليه كل استطلاعات الرأي. ما يجري في أوروبا اليوم يجري أيضا أو سيجري في كل دول العالم اذ أن المزارع مهمل وحقوقه ضائعة بالرغم من المهمات الانتاجية الأساسية التي يقوم بها لمصلحة سكان الأرض. هنالك منظمات دولية وحكومية وخاصة عديدة تحاول حماية حقوق المزارعين، الا أنها لم تنجح كما يجب حتى اليوم بسبب وجود قوى نفوذ تفشلها لغاياتها المادية.
هنالك قوى زراعية من نقابات وتجمعات وجمعيات تطالب بحقوق المزارع ومستعدة للذهاب بعيدا لتحصيل حقوقها من السلطات الرسمية الشريعية والتنفيذية. بعد انتفاضة المزارعين الفرنسيين في الأسابيع الماضية، وعدوا من قبل الحكومة الجديدة بتلبية مطالبهم لذا عادوا الى منازلهم وحرروا كل الطرق التي قطعوها حتى تلك الواقعة على أبواب العاصمة باريس. لم يكن التحرك فرنسيا فقط بل أوروبيا أيضا، اذ قام بنفس التحرك مزارعو بلجيكا وهولندا وبولندا ورومانيا واسبانيا والبرتغال واليونان وغيرهم لأن المشاكل مشتركة والتقصير واحد والاهمال واضح والحلول مؤجلة.
مما يعاني المزارع الأوروبي؟ من أمرين أساسيين هما انفتاح الأسواق الأوروبية على السلع القادمة من خارج الوحدة وفي مقدمها أوكرانيا اليوم والتي لا تخضع لنفس الشروط وبالتالي تباع بأسعار أقل، وثانيا من تكلفة الانتاج المرتفعة اذ يفرض عليهم استعمال أدوية وسماد مكلفة وهذا غير مطلوب من المزارع غير الأوروبي الذي يصدر الى أسواق الوحدة. منافسة قوية غير عادلة مع تكلفة انتاج مرتفعة دفعتا المزارع الأوروبي الى الانتفاضة ولم تتجاوب الحكومات بعد بجدية وسرعة وموضوعية.
يعاني المزارع من دخله المنخفض الذي لا يسمح له بالعيش الكريم في ظل التضخم العالمي الشامل المرتفع الذي سببته الحروب كما معاناة سلاسل الامداد وغيرها من السياسات والوقائع السوداء. فالقطاعات التي توصل السلع الزراعية الى المستهلك مزدهرة جدا أي الوسيط ونقط البيع خاصة في المحلات التجارية الكبرى. المنتج الأساسي فقير بينما الوسطاء أغنياء، وهذا يظلم المزارع والمناطق الريفية وكل ما يساعدنا على التنفس النظيف. يعاني المزارعون أيضا من الضرائب المرتفعة التي تفرض عليهم ومن الاجراءات والقوانين الظالمة في رأيهم التي تفرض عليهم مواصفات لتحسين نوعية الانتاج ويمكن أن تكون عكس ذلك تماما. بالاضافة الى ذلك، تفرض على المزارعين المنافسة من قبل أسواق بعيدة سلعها أرخص ولا تخضع لنفس القواعد والضرائب والمواصفات التي يخضع لها المزارع الأوروبي. هنالك اتفاقيات تجارية قديمة وأخرى طور الانجاز تظلم المزارع الأوروبي المنتفض مما يجعل المستهلك يفضل شراء السلع المستوردة الرخيصة عوض السلع المحلية في غياب المعلومات الصحيحة المنطقية الواضحة. هنالك قوانين عدة في أوروبا يعتبرها المزارع ظالمة، اذ عليه أن يترك مثلا 4% من أرضه غير مزروعة حماية للبيئة لكن ذلك يساهم أيضا في رفع تكلفة انتاجه وانخفاض حجمه.
ما الذي يزعج المزارع الفرنسي تحديدا والذي أنزل آلياته الى الطرق وسحبها بعد الوعود السخية من قبل الحكومة؟ على ما يظهر لم تنفذ هذه الحلول أو معظمها، وها هم المزارعون يعودون مجددا الى اقفال الطرق خلال المعرض الزراعي السنوي المهم جدا الذي افتتحه الرئيس الفرنسي. يعاني المزارع الفرنسي من ارتفاع تكلفة الوقود التي يحتاج لها للانتاج. يطالب بالمساعدات المالية المباشرة أي الدعم كي يخفض أسعاره. مشاكله ترتبط أيضا بتكلفة النقل وأسعار الأدوية والسماد الكيماوي، وبالتالي يطالب باعطائه فرصة للنجاح في الأسواق ضمن قواعد الحياة والمنطق. تكمن المشكلة في أن الصراعات السياسية الممولة للحملات الانتخابية والأحزاب ترتكز على قطاع الخدمات والتجارة ولا مصلحة لها بتقوية القطاع الأول المهم حياتيا والضعيف سياسيا.
يعاني المزارع الاسباني مثلا وغيره من الاجراءات الادارية الثقيلة والمكلفة ومن الاتفاقيات التجارية التي لا تصب في صالحه. فالحل لا يكمن في العنف وقطع الطرق وانما في تشكيل لوبي زراعي قوي في كل دول الوحدة الأوروبية يغير بعض السياسيين كما القوانين التي تسيء الى الزراعة وتعزز أوضاع القطاعات الأخرى والسلع المستوردة. مشكلة الزراعة الأوروبية وغيرها ليست تقنية اقتصادية فقط، انما خاصة سياسية اذ يحتسب السياسيون الأصوات المؤثرة على معاركهم الاانتخابية وهنا تخسر الزراعة ويستمر اهمالها واهمال حقوق المزارعين.