ليس جهاداً ولا حاجةً حياتية، إنه شغف يجتاح محبيه ويغرقهم في علاقة عشق مع شتولهم وتربتهم وأرضهم وأحواضهم. هو شغف الزراعة يسكن اشخاصاً لم يمتهنوها كوسيلة عيش بل جعلوا منها هواية تعيدهم الى الأرض والجذور بعد رحيل طويل. هواة يتشاركون تجاربهم على مواقع مختصة ويطرحون اسئلتهم وتساؤلاتهم: كيف تنمو البطاطا في كيس او متى يبدأ موسم الـ”قرص العني” او كيف تتفتح زهرات الزعفران؟ اسئلة قد لا تعني الجميع لكنها تسمو عند هواة الزراعة الى مستوى الأسئلة الوجودية لارتباطها بعلاقة صارت جزءاً من حياتهم.
إن كانت الزراعة عملاً تلقائياً عند الأجداد يعرفون مبادئها بالفطرة والتوارث إلا انها عند هؤلاء الهواة الجدد بحاجة الى تلقّن أصولها ومبادئها الأساسية حتى لا تأتي نتائجها عكس ما هو منتظر منها، وهذا ليس دائماً بالأمر السهل خصوصاً على الطارئين على الزراعة والمستجدين بالمصلحة.
الأمثلة على الإخفاقات كثيرة ومحبطة احياناً. تخبر لميا كيف انها ارادت زراعة قطعة ارض مهملة خلف المبنى الذي تسكن فيه فجلبت من يفلح التربة واشترت البذور وساعدها أحد العمال السوريين في “تتليم” الأرض وبذرها وتقطيعها الى مساكب مختلفة ثم حين بدأت الشتول تكبر عمدت الى نصب القصب على أكعابها لتتسلق عليه واعتمدت نظام ري يومي بنباريش دقيقة. باختصار قامت بكل ما عليها وثابرت على العناية بمزروعاتها وراحت تترقب نمو شتول الخضار المختلفة لتفاجأ بان امراضاً مختلفة ضربت الشتول ويبس معظمها أو ابيضّت وريقاته وما تبقى أعطى خضاراً صغيرة مشوهة المنظر لا تثير الشهية. لم تعرف أسباب الفشل ولا الأخطاء التي ارتكبتها وأدت الى هذه النتيجة المخيبة للآمال. لذا حملنا تساؤلات لميا وغيرها الكثيرين الى المهندس الزراعي مروان غوش لنقف منه على أنسب الطرق لمساعدة المزارعين الهواة واحدث التقنيات لزراعة الشتول على السطوح والسطيحات والشرفات…
الخبرة ثم الخبرة سر نجاح الزرع
ليس كل من حمل معولاً صار مزارعاً فالزراعة تحتاج قبل كل شيء الى الخبرة، في الحقول كما على الشرفات لها أصولها وتقنياتها ومن يتغاضى عنها لا تثمر جهوده. يقول المهندس الزراعي أن الانطلاقة تكون في استصلاح الأرض المهملة التي تركها اللبناني لعقود ونكشها وتنقيتها من الحجارة و قلع الأعشاب البرية منها بالطرق اليدوية لا من خلال المواد السامة وبعدها تزويدها بالمواد العضوية التي تجعلها قادرة على تغذية المزروعات. فالزراعة الصحيحة تحتاج الى مساحة، لكن التربة تموت إذا أهملت لوقت طويل وتفقد موادها العضوية من هنا ضرورة استشارة المختصين او اصحاب المحلات الزراعية ومكاتب الإرشاد الزراعي التابعة لوزارة الزراعة الموجودة في كل قضاء حول كمية الأسمدة التي تحتاجها الأرض. بعد تهيئة الأرض لا بد من اختيار الوقت الصحيح لزراعة كل نوع من المزروعات، بعضها مثل البندورة والخيار والحشائش تزرع صيفاً وبعضها الآخر مثل القنبيط والملفوف والبروكولي يحتاج الى برد الشتاء. يمكن للمزارع الهاوي شراء البذور ذات النوعية العالية من المحلات الزراعية المختصة لكن يبقى الأفضل والأسهل شراؤها كشتول وغرسها في الأرض وهو ما يوفرعليه جهداً ووقتاً قد يصل الى حدود 25 الى 30 يوماً.
زراعة البذور ليست بالأمر السهل ولا تتم في الأرض مباشرة بل تحتاج الى صوانٍ وتربة خاصة لتنقل بعدها الى الأرض المفلوحة. وما ينبغي معرفته أن المزروعات لا تنمو تحت الشجر فهي تحتاج الى شمس لتكبر، كما أن ريّها يتطلب خبرة فكثرة الماء تؤذيها كما أن قلته قد تتلفها. ويبقى الأهم حماية المزروعات من الحشرات الضارة والأمراض الفطرية والحل هنا على خلاف ما يعتقد بعض هواة الزراعة ليس بالتخلص من هذه الآفات عبر رش المواد الكيميائية التي قد تؤذي الزرع لا سيما وانه للاستهلاك الشخصي بل باعتماد مبدأ الزراعات المشتركة اي زرع عدة اصناف قرب بعضها البعض بحيث يحمي احدها الثاني ويبعد عنه الحشرات كزراعة إكليل الجبل قرب البندورة. او باستبدال السموم بمواد طبيعية مثل نقيع نبتة القريص الذي يكافح المن او نقيع القصعين او الأويسة الذي يقضي على بعض الحشرات.
بعض اصناف المزروعات سهل ولا يتطلب مساحات كبيرة أو خبرة عالية مثل البصل والثوم والبطاطا وهي قادرة على إعطاء الكثير من الغلال، فمئة متر مزروعة بطاطا مثلاً قد يصل منتوجها الى 300 كلغ. اما بالنسبة إلى الأشجار المثمرة فيجب احتساب 16 م2 من الأرض لكل شجرة من هنا حاجتها الى جلال ومساحات كافية.
الزراعة المائية بديل ممكن
ولكن إذا كانت الزراعة المنتجة تتطلب ارضاً مستصلحة فثمة بديل آخر يعتمد تقنية زراعية جديدة تعرف باسم الزراعات المائية او Hydroponics وهي تقنية يمكن اعتمادها على الأسطح وحتى في المخازن تحت الأرض وتتضمن أكثر من طريقة واحدة يشرحها لنا المهندس الزراعي مروان غوش.
الطريقة الأولى تعتمد على الزراعة في القساطل في الماء مباشرة حيث يمر في القسطل مجرى مائي ضئيل تتم فيه زراعة الشتول مثل الخس من دون تراب او ما يشابهه لتُسترد بعدها المياه العابرة في القسطل وتُعاد إليه في حلقة مقفلة. من حسنات هذه التقنية انها لا تحتاج الى مساحات ولا الى تربة ويمكن ان تنتج الكثير من الخس مثلاً لكنها بحاجة الى مراقبة دقيقة إذ قد ترتفع حرارة المياه في القساطل وتخف فيها نسبة الأوكسجين وتتكاثر الفطريات والباكتيريا. كما أن القساطل لا تحتمل وزن المزروعات الثقيلة مثل الخضار كالبندورة او الخيار وغيرها ويفضل زراعة الخس او الكرمب فيها.
الطريقة الثانية للزراعة المائية تقوم على اعتماد فواشات مثقوبة توضع على سطح برك او أحواض تحتوي على ما يعادل نصف متر من الماء فتنزل جذور الخسة في الماء وتنمو في الفواشة. وهذه الطريقة تخفف من احتمال سخونة الماء وبرودتها بسرعة والتعاطي معها اسهل.
ثمة طريقة ثالثة يمكن ان تستخدم لزراعة الخضار وهي استخدام مادة هامدة مثل قشور جوز الهند لزراعة الخضار ثم مد قسطل خارجي مزود بانابيب دقيقة لضخ المياه والمواد الكيميائية المغذية نحو الشتول لتكبر وتزهر وتثمر. وهنا يجب تغيير التركيبة الكيميائية للمياه التي يتم ضخها في كل مرحلة لتناسب نمو الشتلة.
عموماً الزراعة المائية تتطلب معرفة وخبرة ولا يمكن لهاو القيام بها قبل الاطلاع على مبادئها كذلك تحتاج المياه الى مراقبة دائمة للتأكد من درجة حموضتها وملوحتها بواسطة جهاز خاص ويمكن ان يطلب رأي مهندس خبير ليفيده بكل متطلبات هذه الزراعة. ولكن رغم الصعوبة يمكن ان تشكل هذه الطريقة خياراً جديداً للزراعة على الأسطح لا يتطلب إلا قساطل ومضخة صغيرة ومعرفة بالتقنيات.
ايتها السيدات انتبهن!
من يتابع صفحات الزراعة والمنضمين إليها لا شك يلاحظ مدى تفاعل السيدات واهتمامهن بهذه الهواية الممتعة بعيداً عن الطهو او قضاء ساعات في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي. هي عندهن أكثر من هواية هي اسلوب عيش مرتبط بالطبيعة وخيراتها وما تعطيه من مؤن، ومن يطلع على مشاركتهن عبر هذه الصفحات يدرك ان اهتمامهن يتخطى المحصول ليتحول الى ما يمكن تصنيعه وتحضيره من المنتجات التي تعطيها الأرض. المربيات، الزعتر، الملوخية اليابسة، الزيتون المكبوس أو الباذنجان المكدوس مواضيع تتردد باستمرار على السنة السيدات والإستشارات حولها كثيرة ومتعددة بقدر تعدد الأجوبة وتنوعها.
لكن الرزق والمؤونة قد يبقيان غريبين في المدن حيث يتحول اهتمام السيدات الى شتول الزينة داخل البيت وعلى الشرفات. فهنا الأمر لا يحتاج الى جهد بل الى عناية يومية مسلية مريحة للأعصاب. لكن ما يسهى عن بال الكثيرات ان هذه الشتول تحتاج الى دراية للاهتمام بها. ووفق ما يقوله لنا المهندس غوش فإن خطأ السيدات الأساسي هو كثرة الري التي تؤذي الشتول وتتسبّب في تعفن التربة خاصة في غياب نظام تصريف في الأحواض إذ يجب رصف طبقة من البحص في اسفل كل إناء لتأمين تصريف المياه وكذلك يجب التفريق جيداً بين شتول الداخل وشتول الخارج فالأولى ينبغي وضعها قرب النافذة من دون تعريضها مباشرة لاشعة الشمس اما شتول الخارج فتحتاج الى الضوء من دون تعرض كبير للشمس مع حماية من الهواء والبرد. هذا مع الحاجة الى استخدام الكمية المدروسة من المغذيات لتربة الأحواض وتشذيب الشتول من وقت الى آخر وحمايتها من الحشرات.
على راس السطح
كما للمسرح محترفاته التجريبية فهكذا للزراعة تجاربها المرتكزة ربما على حدس او تبادل لمعلومات او خبريات متوارثة. وعلى صفحة «إزرع» ومثيلاتها من الصفحات تكثر الاختبارات والتجارب: أحد الأصدقاء من ساكني منطقة البترون الوسطى اختبر زراعة البطاطا في دولاب كاوتشوكي ثم أضاف آخر فوقه وعمل على زيادة التراب باستمرار حتى خرجت الوريقات و تحوّلت البطاطا الى شتلة وهو في انتظار مرور المئة يوم ( عمر الشتلة الأقصى) لقبع الدواليب ولم البطاطا. و لكن ما نصحه به أحد المشاركين على الصفحة هو بتشحيل الأوراق لإتاحة المجال لثمرة البطاطا بالنمو بشكل أفضل بدل أن يذهب معظم الغذاء نحو الأوراق.
آخر نشر فيديو حول حديقته المتنوعة على السطح وكيف باستطاعته استخدام الخيم البلاستيكية لحماية مزروعاته ونصح ثالث باستخدام النفق البلاستيكي الصغير الذي يستخدم عادة لزراعة الفريز إذ إن علوه لا يتعدى المتر شرط ان يكون سطحه محمياً من الهواء. وسيدة استشارت حول مسألة امتناع الدجاجات عن البيض وإذا ما كانت بحاجة الى ديك فتبين ان القن بحاجة الى الدفء اكثر من حاجته الى الديك…