IMLebanon

الكورونا تعيدنا إلى الزراعة

 

من أسوأ النتائج التي صدرت عن العولمة هو تضخم القطاع الثالث أو الخدمات الى حدود لم يشهدها العالم سابقا.  من أسوأ نتائج العولمة انحدار القطاع الزراعي الى حدود لم نعرفها من قبل. الجميع يريد العمل في القطاع الخدماتي أي المصارف والتأمين والسياحة والبورصة وغيرها والقليل يريد أن «يلوث» يديه في الصناعة والزراعة.  انتعشت في العقود الماضية كليات ادارة الأعمال ماليا وبشريا وتجهيزيا ونشرت ما تدرسه عالميا من وسائل عملية للاستثمار والمضاربة لا تخلو من المخاطر الكبيرة.  لم يعد بإمكان كليات الزراعة الاستمرار لغياب الطلب على خدماتها، فأقفل عدد كبير منها وتعثر التمويل في عدد آخر.  هنالك اليوم عودة معاكسة الى الزراعة بعد ان تبين للجميع أخطاء التهور في المال المبني على الجشع والمخاطرة.

فالزراعة ليست قطاعا فقط، انما هي مصدر للحياة أي انتاج السلع الزراعية والحيوانية المؤثرة أيضا ايجابا على المناخ والصحة.  حتى في الدول التي لها مناخ مناسب تدنت حصة الزراعة في الاقتصاد وتدنى الانتاج وارتفعت الأسعار وأصبح من الصعب احياء الزراعة حتى مع الدعم السخي والحمايات المرتفعة.  استطاعت أوروبا كما الولايات المتحدة الحفاظ على حيوية زراعاتها عبر الدعم السخي بعشرات مليارات الدولار سنويا استفاد منها للأسف كبار المزارعين مما وسع فجوة الدخل.  هذا طبعا جزء من الفساد الذي لا تخلو دولة منه في أيام الجشع والضبابية.

من أهم تحديات القرن الـ 21 هو تأمين الانتاج الغذائي الجيد لمليارات السكان الذين يتزايدون بشكل خاص في الدول الأكثر فقرا.  لن تنجح الزراعة مجددا اذا لم يتم الانتباه في نفس الوقت الى الثروة المائية والى التقدم العلمي لزيادة الانتاجية ورفع مستوى النوعية. التنبه الى السلامة البيئية يعزز الانتاج الزراعي وسلامته.  المهم أن يستمر دعم البحث والتطوير الزراعي للجامعات ومراكز البحوث لأن الأموال العامة أصبحت قليلة ويتم البحث عن التمويل من الشركات.

مشكلة التمويل الخاص أنه يهدف الى الربح وبالتالي نشاطات البحث والعلوم يمكن أن تكون مركزة على ما يفيد هذه الشركات مباشرة ولا يخدم الانسان في أهم حاجاته.  هذا يحصل أيضا في الصحة حيث تنفق المليارات على الأدوية الباهظة وتترك أدوية الفقراء في سلات الاهمال.  تقدر قيمة تمويل البحث الزراعي عالميا بـ 33 مليار دولار كان يأتي معظمه من الموازنات العامة.  لا شك أن البحث الزراعي يستفيد أيضا من التقدم الحاصل في العلوم الأخرى كالفيزياء والكيمياء والطب.

الكورونا عززت الزراعة لان الأزمة المالية العالمية وتدني الدخل الفردي والعائلي دفعا ملايين الأشخاص الى العودة الى الزراعة الخاصة أي انتاج ما يحتاج اليه الانسان لتخفيض الفاتورة الاستهلاكية.  نشهد اليوم زراعة منزلية خاصة متنوعة وجيدة.  انخفاض الدخل نتيجة الكورونا سيدفع بـ 130 مليون شخص اضافي الى الجوع قبل آخر هذه السنة تبعا للأمم المتحدة.  في السنوات الأربع الأخيرة، عانى العالم من الصراعات السياسية الحادة ومن مشاكل التغيير المناخي كما من سوء الاستقرار الاقتصادي.  نتج عن هذا الواقع ارتفاع عدد الجائعين من 80 مليون شخص الى 135 مليوناً اليوم.  اذا أضفنا اليهم تقديرات الأمم المتحدة، سيرتفع عدد الجائعين الى 265 مليون شخص قبل نهاية 2021.

للعودة الى الزراعة، لا بد ربما من ثورة قطاعية جديدة تستفيد من التقدم التقني والصحي الحاصل لرفع الانتاجية وزيادة الانتاج في الكمية كما التنوع والنوعية.  الثورة الزراعية الأولى حصلت بين سنتي 1750 و 1850 في بريطانيا وتميزت بتغير كبير في طبيعة المجتمع والعلاقات داخله.  كانت الأرض مشاعات وكان كل مواطن يزرع ما يكفيه لكن الانتاج لم يتطور لأن المزارع لم يكن يملك قطعة الأرض التي يزرعها.  لم يكن العرض بمستوى الطلب وبالتالي وجب تغيير قواعد اللعبة مما ساهم في تعزيز القطاع وتشجيع المنتجين.  تطور القطاع الزراعي العالمي تاريخيا عبر عاملين:

أولا:  قسمت الأراضي الى قطع فردية صغيرة محددة الحدود مع سندات تمليك شرعية ورسمية بحيث شعر المزارع انه ينتج لنفسه وللسوق.  تطور الانتاج وتحسنت نوعية السلع كما الانتاج الحيواني بفضل تقدم البحوث والعلوم فتحققت الأرباح ونما القطاع.

ثانيا:  اعتمدت الوسائل التقنية الجديدة عبر آليات وسماد وأدوية أصبحت متوافرة.  حصل التقدم ببطء مع الوقت لكنه كان مهما وبخطى ثابتة ومؤكدة.  اختلفت النتائج تبعا لعوامل الطقس وحسن استعمال التكنولوجيا.

لماذا حصلت الثورة الزراعية في بريطانيا تحديدا وانتشرت بعدها الى أوروبا وبقية دول العالم علما أن هنالك دول نامية حتى اليوم لم تعرف بعد ثورتها الزراعية والحيوانية؟  هنالك عوامل عدة:

أولا:  الارتفاع الكبير في عدد السكان وبالتالي ارتفاع الطلب على السلع الغذائية والحيوانية.  تشكلت مدن عدة كبرت مع الزيادة السكانية فتعززت وسائل النقل وتدنت تكلفتها.  في هذه الفترة تعزز النقل البحري والبري للحاجة اليهما.

ثانيا:  نشأ علم الاقتصاد في تلك الفترة مع كتاب أدام سميث في سنة 1776 «ثروات الأمم» وبالتالي بدأ تظهر في المجتمع البريطاني كما العالمي عقلية التجارة والربح والعمل والاختصاص للنمو.  كانت أسعار السلع الزراعية مرتفعة تبعا للدخل، لذلك وجدت الرغبة لزيادة العرض وتخفيض الأسعار.

ثالثا:  لا يمكن انكار النتائج الاجتماعية الكبيرة للثورة الزراعية وهي تشكيل المدن وخلق شبكات نقل ومواصلات لتحسين نوعية الحياة ولنقل السلع بين المنتج والمستهلك.  لا يمكن انكار النتائج التقنية أي انتاج نوعية كبيرة من السلع وتحسن مهم للأرض التي أصبحت تنتج أكثر بفضل الأدوية والري والتقنيات الجديدة كما انتشار العلوم الزراعية.

في الدول النامية والناشئة تعيش نسبة أكبر من السكان من القطاع الزراعي ومن المتوقع بعد الكورونا أن ترتفع هذه النسبة.  كي تنتعش الزراعة أكثر لا بد من التمويل وايجاد ضمان للانتاج الزراعي الخطر المرتبط بالطقس كما البحث عن أسواق للبيع في ظل أسعار متقلبة.  هنالك قسم من القطاع الصناعي مرتبط بالزراعة أي التصنيع الزراعي المهم جدا لدول لا تستطيع القيام بالانتاج الصناعي الثقيل أو المتطور.  تصدير السلع الزراعية مهم، لكن الأهم هو تصدير الصناعة الزراعية المعلبة.

هنالك تقارب مادي يحصل اليوم بين الدول الغنية والأخرى الأقل غنى.  في سنة 1990، كانت حصة الدول الغنية من الدخل العالمي 70%.  أما اليوم وبفضل انتقال التكنولوجيا الحديثة الى الدول النامية والناشئة، تدنت حصة الدول الغنية الى 20%.  يعتبر هذا التحول ثورة في العلاقات الدولية يتنبه له العالم الصناعي اليوم.