فورة الزراعة وتربية المواشي صرعة عابرة
منذ سنتين ونيّف دوّت في أرجاء الوطن المقاوم دعوة حازمة للجهاد الزراعي في مواجهة الحصار الغاشم المفروض على لبنان، وتلقف الدعوة شعب لبنان العظيم بجناحيه وأُعدّت الشرفات والأسطح ونكشت كل حاكورة أمام البيوت في المدن والضواحي والأرياف، ووزعت طيور الفري والدجاج كما الأرانب والماعز على المجاهدين والمحازبين وصارت شتول البندورة والقنبيط عنوان الصمود والتصدي. ومع وصول الجائحة صار للجهاد وجه أشمل وتحول هواية المزروبين قسراً في البيوت ليتبين اليوم أنها من أكلف الهوايات وأصعبها.
في ذاك الزمن القريب، تحمّست الأحزاب والهيئات المدنية وغمرت بكرمها كل راغب بالحصول على شتول وبذور او على مواش وطيور وانطلقت موجة زراعة وتربية حيوانات ومواش جارفة، على غرار كل الموجات التي تجتاح لبنان ليتبين بعدها ان الزرع لقي ما لقيه في مَثل الزارع في الكتاب المقدس حيث «وَقَعَ بَعْضُهُ عَلَى أَرْضٍ صَخْرِيَّةٍ رَقِيقَةِ التُّرْبَةِ، فَطَلَعَ سَرِيعاً لأَنَّ تُرْبَتَهُ لَمْ تَكُنْ عَمِيقَةً؛ وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ، احْتَرَقَ وَيَبِسَ لأَنَّهُ كَانَ بِلا أَصْلٍ. وَوَقَعَ بَعْضُ الْبِذَارِ بَيْنَ الأَشْوَاكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ». وانحسرت الموجة مخلفة وراءها تكاليف لم تكن في بال من ركبوا غمارها…
« تجليطة»
نديم زرع امام منزله في بلدة عجلتون الكسروانية ستين شتلة خس وملفوف وخيار بلغت كلفتها 120000 ليرة ودفع لأحدهم مئة الف ليحضر التربة وينكشها ويزيل عنها الحجارة ونصحه آخر بشراء سماد عضوي من مخلفات الأسماك والطحالب البحرية بلغت كلفة الكيلو منه مئتي ألف ليرة عدا عن أنواع مختلفة من المبيدات اشتراها لكل صنف. ومعروف ان المنطقة تخضع لنظام العدادات بالنسبة لاحتساب مصروف المياه وتفتقر إليها صيفاً ما يضطر أهلها لشراء صهاريج المياه. وهكذا صارت كلفة الخسة في أرضه أغلى من كلفتها في رؤوس البعض ووصلت الى 50000 ليرة…اما الملفوف فلم يلتف حتى الساعة لأنه زرع في غير موسمه… الزراعة « تجليطة» يقول الرجل والتوفير «مش كبيييير» كما يقول الإعلان بل هي كلفة عالية بلا مردود فعلي وقد صارت هواية مكلفة مثلها مثل أقتناء العملة القديمة او تدخين السيكار…
ديزيريه التي تحاملت على نفسها ورضيت بأن يقيم زوجها قن دجاج قرب البيت في غوسطا «تولول» اليوم حين تراه يذبح أمام عينيها المذعورة الديك الأشقر. اعتاد «المرحوم» تناول الفاصوليا والأرز من يديها وكان يشارك عائلتها الطبق اليومي. فهو آخر سلالة الصيصان التي كبرت على نفَس مقاوم وشاءت منذ نعومة أظافرها الاتكال على ذاتها وتحدي الأزمة الاقتصادية. صار الديك اليوم عبئا على العائلة بعدما لم تتمكن دجاجاته من تأمين البيض لها نظراً لغلاء الأعلاف وقد تخطى سعر المائة كيلو المليون ومائة ألف ليرة!
زراعة بيتية فاشلة
هل فشل اللبنانيون بالعودة الى الجذور رغم استفحال الأزمة الاقتصادية واشتهاء معظم البيوت قلبَ خسّ أخضر او زهرة كوسا نضرة او « بيضة بلدية»…؟ أحد الخبراء الزراعيين فنّد لـ»نداء الوطن» الأسباب قائلاً:
مع بدء جائحة كورونا والانهيار الاقتصادي في العام 2020 وغلاء أسعار المواد الغذائية والخضار وفي إطار حاجة الناس وتزامناً مع دعوات المسؤولين، قام بعض سكان المدن إضافة الى سكان الريف بمحاولة لتأمين إنتاج واكتفاء زراعي وحيواني لا سيما أن جائحة كورونا أجبرت كل دولة على تأمين اكتفاء زراعي وغذائي والتقليل من الصادرات لكن في حالة لبنان، لا إمكانية لتأمين الاكتفاء الزراعي إلا في بعض أنواع الإنتاج الزراعي مثل البطاطا، العنب، الحمضيات والموز. بداية أخذت الفكرة بعداً واضحاً من دون أن يعرف من لحقوا بها أن الزراعة المنزلية صعبة، ولا تكفي الحاجات الغذائية للعائلة لا كمّاً ولا نوعية كما لا يمكن إنتاج كل الأصناف المطلوبة من نباتات او حيوانات.
ويكمل الخبير قائلاَ أنه يمكن بالطبع زرع الأحواض بالبقدونس أو النعناع أو بعض شتول الخس والبندورة والخيار إنما على نطاق ضيق جداً وهذه زراعة غير مستدامة نظراً لعدم تواجد تربة وإمكانيات زراعية كبيرة، حتى تربية الدجاج التي تبدو في متناول اليد فيها صعوبات كثيرة في المدن نظراً لما يحيط بها من أوساخ وتكاثر للحشرات.
ونظراً لهذه الصعوبات سرعان ما توقفت زراعة الأسطح والشرفات التي تحمس لها اللبنانيون بعد مضي شهرين او ثلاثة بعدما تبين للمزارعين الطارئين «على المصلحة» أنها لا تعطي الإنتاج الكافي وتلزمها عناية قد لا تتوفر في المنازل ورش أدوية ومبيدات باتت مكلفة جداً في هذه الأيام.
أما في الجبال والمناطق الريفية فالأمر اختلف بعض الشيء كما يؤكد الخبير الزراعي ومع « ترحيل الجائحة « لبعض أهالي المدن الى أريافهم وقراهم قام هؤلاء للحماية من كورونا وللتخفيف من الإنفاق المالي بزرع الخضار على أنواعها على نطاق ضيق في الحدائق وبزرع الفواكه على أنواعها باسلوب متواضع في الأراضي حول المنزل او قاموا بتربية غنم وماعز ودجاج في « الحواكير» وبعضهم عمد الى زراعة القمح والأعلاف والشعير لا سيما من يملكون بعض رؤوس الماشية او طيور الدجاج.
اكتفاء ذاتي لم يصمد
المتمرسون بعض الشيء بالزراعة او الراغبون فعلاً بالحصول على اكتفاء ذاتي لجأوا الى مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية لطلب المساعدة والنصح والحصول على الشتول والبذور المختلفة من بندورة، خيار، فليفلة، فريز حيث تم توزيع 660000 شتلة في كل الأراضي اللبنانية على المواطنين لزرعها في حدائقهم أو على الشرفات وهي شتول يسهل الحصول عليها مجاناً وبدون أي طلب أو استمارة. وحصل البعض وكذلك مربو النحل على شتول الصعتر وإكليل الجبل لزرعها للاستفادة منها كنباتات عطرية وغذاء، إضافة الى غذاء للنحل لإنتاج العسل إذ كانت المصلحة قد وزعت قفران نحل على مواطنين في الريف والبقاع لتربية النحل وإنتاج العسل. وشهدت مصلحة الأبحاث الزراعية فورة شراء للأغنام والماعز المحسنة النسل وكذلك الدجاج المؤصل لتتم تربيته لإنتاج اللحوم والبيض في المناطق الريفية
لكن هذه الفورة لم تدم طويلاً ولم تصل فرحة المزارعين لقرعتهم وسرعان ما تلاشت الزراعة الريفية حول البيوت أيضاً لأسباب متعددة منها عودة معظم سكان الريف والجبال الى المدن مع تلاشي فترة الحجر المنزلي والانقطاع المستمر للكهرباء، والكلفة العالية للأسمدة والأدوية حيث تبين ان زراعة المساحات الضيقة شديدة الكلفة لإنتاج ضئيل، إضافة الى قساوة المناخ في فصل الشتاء وبرودته الشديدة وحيث حر الصيف يتطلب ضرورة تأمين المياه للري. لذا لم تستمر الزراعة «الجهادية» و لم تصمد إلا الزراعة التقليدية في الأراضي الزراعية التي تتمتع بمساحات كبيرة تخفض كلفة الإنتاج وتعطي إنتاجاً وفيراً يمكن بيعه أو الاستفادة منه مادياً.
جهاد المشاوي
حالة التراجع الزراعي هذه اصابت أيضاً معظم من قاموا بتجربة تربية الدجاج والمواشي. ويقول جورج وهو صاحب مزرعة وخبير في تربية المواشي خصص وقته لهذه الهواية وحوّلها الى شغف مثمر أنه راقب جيداً ما كان يجري من حوله وأدرك بسرعة ان فورة الزراعة وتربية المواشي ما هي إلا صرعة عابرة وليست استراتيجية بعيدة الأمد يمكن أن تعود على البلد والمواطنين بالفائدة. فمعظم من انجرفوا وراء الموجة واشتروا بضع دجاجات او رأسي ماعز او خرافاً وجدوا الأمر مرهقاً ومكلفاً خاصة أنهم لا يفقهون شيئاً في تربية المواشي. منهم من كان يطلب الى جاره ان يحلب له العنزات او إلى العامل السوري القريب ان يدير باله على الخروفين في الزريبة قرب البيت…ولم يطل الأمر بالكثيرين حتى ذبحوا «استراتيجيتهم الغذائية» و باتوا متلهفين للتخلص من «أدوات صمودهم» التي تطلبت منهم تعباً ومصروفاً أكثر مما أعطتهم.
ويؤكد جورج أن المستجدين في تربية المواشي لم يعرفوا مثلاً أن الخروف يحتاج يومياً الى 2 كيلو علف ومثلهما من التبن في اليوم بكلفة تقارب دولاراً ونصف الدولار في اليوم اما البقرة فتحتاج الى 15 كيلو علفاً في اليوم إذا كانت حلوباً و4 كيلو إن لم تكن كذلك وحوالى 7 كيلو من التبن كذلك في وقت بلغ فيه سعر طن التبن 250 دولاراً وكيلو العلف حوالى نصف دولار، هذا عدا عما تتطلبه العناية بالمواشي من كلفة تطبيب وأدوية لا سيما بالنسبة لمن لا يملكون اية خبرة في صحة المواشي وما قد يصيبها من أعراض مختلفة… لذا تراجع هؤلاء الهواة عن فكرة تربية المواشي وباع بعضهم أبقاراً دفعوا ثمنها أكثر من سعر سيارة او أقاموا ولائم على رؤوس الماعز والخراف فكان جهاد المشاوي خير ختام لمشوار الصمود….
بيضة بيروت الأولى
حين وزع نائب التيار الوطني الحر نيكولا الصحناوي اقفاص الفري على التياريين في بيروت الأولى في العام 2020 كان الهدف « بيضة كل يوم» لتحقيق الاكتفاء الذاتي والمقاومة الاقتصادية وارتاح بال أهالي المنطقة حينها بعد أن اطمأنوا الى أنهم لن يجوعوا وسيحصلون على بيضتهم الطازجة يومياً ولم يدركوا يومها أن طريق جهنم قد يكون معبداً بالبيض أيضاً…