أحمد الأسير، لبناني منذ 10 سنوات وأكثر. فضل شاكر كذلك. خالد حبلص أيضاً. شادي المولوي وأسامة منصور أيضاً وأيضاً. وآخرون مثلهم، كلهم لبنانيون… ولدوا هنا، ترعرعوا هنا، درسوا هنا، وتدربوا على العنف هنا، وتزوّدوا بالعقيدة الثأرية هنا… حصة لبنان في تنشئتهم كبيرة. حملات «المظلومية» في الإقليم المحترق حول لبنان، أشعل فيهم غضباً وأوقعهم في أسر الإلتزام بالانتقام. الدعم المالي والتذخيري، غير المشكوك بمصادره اللبنانية والخليجية، دفعهم إلى مراودة الفتنة… لقد كانت بسببهم على قاب قوسين، أو أدنى.
هؤلاء لبنانيون من بيئة لبنانية ممتلئة بفائض من العنف. بيئة متصلة، كما هي العادة، بالبيئات الإقليمية وملتزمة بأطرافها الخارجية، تكفيراً وجهاداً وقتالاً وثأراً. مسؤولية لبنان وازنة. هي بمستوى الارتكاب. تم تخصيب البيئة اللبنانية المنقسمة، بالفكر الجهادي التكفيري. تم التغاضي عن انتشار الثقافة المذهبية المسننة. عبرت النعرات الفقهية الحدود، ووجدت حاضنتها في لبنان. صمت «أولو الأمر» من السياسيين عن ذلك. أحياناً، وقفوا خلفهم. مرات قدموا التبريرات لهم، وضغطوا على أجهزة النظام، قضاءً وأمناً، للإفراج عنهم… فلبنان، ليس بريئاً أبداً. جرت العادة أن يغفر لنفسه ما يرتكب، أو يعفو عن جرائم يرتكبها قادة، و «عفا الله عما مضى». لا أحد يغسل يديه.
أحمد الأسير، ليس ظاهرة خفيفة، ولا كان مشهداً عابراً. اكتظ المشهد السياسي والإعلامي به. لم يكن غريباً عن زمنه كدون كيشوت ولا كان سانشو، إنما كان جديداً جداً وغير مسبوق. احتل الساحات لأيام وأسابيع. احتشد حوله جمهور «مؤمن» بـ «مظلومية أهل السنة»، هنا وهناك، في لبنان وفي سوريا وفي العراق. غُضَّ الطرف عنه، لم يكن حباً به ولا تأييداً له. كان توظيفاً في رهانات الداخل وحسابات الخارج… لولا الانقسام الحاد بين البيئات اللبنانية، لكان أحمد الأسير، إسم علم مجهولا.
لا يُنكر تأثير الخارج. الأبواب اللبنانية مشرعة من أزمنة، لرياح الإقليم. تلفحه الثورات، فيسير بها، وينقسم. يقتبس من الخارج لغته ومفرداته. بعد الناصرية والقومية والمقاومة الفلسطينية، استقبل «ولاية الفقيه» الدينية والسياسية، وفتح الطريق لنتاج الوهابية المذهبية والسياسية. تراجعت «اللبنانية» كصيغة جامعة لصالح «تعايش» رجراج ومزغول في الحقبة السورية. احتمت «المقاومة» بهذا «التعايش» الإلزامي وقد ظللته الإرادة السورية. بعدها، انتقل لبنان ليحكم نفسه بنفسه، ففشل، والمذهبية تعيش وتعتاش على توظيف العداء وتنمية الكراهية وعقدنة الجماعات بأسلحة الفتاوى. تظل الأمور منضبطة إلى أن تفلت جماعات من هذه البيئة، لتشكل حالة متطرفة وتكفيرية، على اتصال ببيئتها الأم، التي تتفهمها وتدافع عنها وإن كانت ترفضها.
في هذه الأحوال يزداد الغلو والتطرف في الدين وفي الممارسة وفي الشحن وفي السياسة. يترجم التطرف بحمل السلاح وإشهاره واستعماله أحياناً، في مناوشات موضعية. طرابلس نموذجاً. عرسال، ذات معركة. تتقدم الجماعات المتطرفة بالسلاح «المؤيد بصحة العقيدة الدينية». يصير قائد المحور، شبيه رجل الدين، وأحياناً يجتمع الإثنان: الأسير حالة فاقعة لهذا الزواج بين رجل الدين ورجل السلاح.
حدث كل ذلك مصحوباً بالتغاضي المتعمد للمرجعيات السياسية والدينية، إلى أن سقط الأسير بالضربة العسكرية المتأخرة، فأثارت ردود فعل وسيقت اتهامات وقدمت أدلة على تورط فريق لبناني بالمعركة ضد الأسير، وضد صيدا كذلك. فالأسير، لم يكن وحيداً. صار وحيداً بعدما تبدّلت ظروف دولية وإقليمية. لكن سقوطه لم يكن خاتمة لاستمرار التكفيريين في ممارسة قتال المحاور، وتفجير السيارات، والاعتداء على القوى العسكرية والأمنية.
سماحة المفتي عبد اللطيف دريان رسم صورة زاهية للبنان، في الندوة التي نظمتها دار الإفتاء المصرية في القاهرة قال: «الغلو والتطرف في الدين لا مكان لهما في لبنان، بلد العيش المشترك والمحبة والحوار بين أبناء الوطن كافة». يصلح هذا الوصف للبنان المشتهى، أو لبنان الغد، حيث يصير الدين تراحماً وتزاحماً على فعل الخير العام، للمسلمين بكل مذاهبهم وللمسيحيين بكل طوائفهم. واقع الحال ليس كذلك، سماحته يصف ما آلت إليه الأمور في الواقع: «الدين في خطر، ومؤسساته في خطر أكبر… ان ثلث طلاب العلوم الدينية ما عادوا يدرسون في مؤسساتنا التعليمية (الوسطية) بل في مدارس للأحزاب والتيارات، وهي مدارس أكثرها يدفع باتجاه العنف». هذا التوصيف يلغي الصورة الزاهية للبنان. يشرح أسباب اتساع بيئة التطرف وقوتها.
المشكلة لبنانية. أحمد الأسير لبناني منذ الولادة. دُفع فاندفع، أو اندفع فدُفع له. توظيفه غير مكلف ويزوِّد الانقسام القائم برصيد الخوف والتخويف. لبنان ولاّدة الأسير وسواه، وهو الآن، يعيش فترة سماح أمنية، وفّرتها له مصالح وقوى، وجدت ضالتها في منع استثمار العنف. أما وقد سقط شهداء، فمن المسؤول؟ الأسير ليس وحيداً. التبرؤ منه مهمة موكلة للضغوط على القضاء والأمن، لإخفاء الداعمين المفتضحين.
لبنان، ينجو بالتقسيط. القوى الأمنية تعمل ببطاقة سماح خضراء. تنجح إذا اعطيت الأمان الضروري من قوى الأمر الواقع السياسي الطائفي. وتنكفئ، عندما تحسب تداعيات كل عمل على التوازنات الهشة في الداخل. الخطط الأمنية بحاجة إلى غطاء طائفي. من دونها، يتضاءل مسرح العمليات الأمنية. حدود الأمن ترسمها حساسيات البيئات المذهبية، من طرابلس إلى عمليات الخطف في البقاع.
لا حل، إلا المؤقت.
في تونس، أقدمت السلطة على علمنة الدين. منعت ان تكون المساجد بأمرة الفكر العنفي والتكفيري. في مصر، إلغاء وتقييد لخطب الأئمة في المساجد.
هل هذا حل، أم أحد الحلول المؤقتة؟ بل هذه إحدى البدايات، وشاطئ الأمان بعيد.
إذا لم تكتشف الحلول الجذرية لكيفية التعامل مع الدين وفصله عن السياسة، فإن «الأسير» الثاني مرشح ليقطع علينا الطريق إلى الحد الأدنى من الوطن.