مرّت حركة «جند الأقصى» بمرحلتين لجهة تموضعها داخل الساحة الجهادية السلفية السورية المسلّحة، الأولى كانت فيها جزءاً من «النصرة» المعروفة حالياً بـ»فتح الشام» وذلك قبل سيطرة المعارضة على ادلب وكان عديدها نحو ٨٠٠ مقاتل، والثانية مرحلة انفصالها عن «النصرة» بسبب رفضها القتال ضدّ «داعش»، وذلك بعد سقوط إدلب حيث تضخّم عدد الحركة ليصبح أكثر من ١٢٠٠ مقاتل.
ثمّة ثلاث وجهات نظر حول الهويّة الحقيقية العقائدية لـ«جند الأقصى»، الأولى تعتبر أنها تتموضع في نقطة وسط بين «داعش» و«النصرة»، والثانية تعتبرها أنها امتداد لـ«داعش»، والثالثة تعتبرها «مستودعاً» للمهاجرين المجاهدين غير السوريين المتردّدين بين التحاقهم بـ«النصرة» أو بـ«داعش».
وعليه درجت كلّ من «النصرة» و«داعش» على توظيف العلاقة بـ«جند الاقصى» لتستوعب هؤلاء المهاجرين حتى يضمن كلّ منهما عدم ذهابهم الى الاخرى.
ويفضي هذا الواقع للاستنتاج بأنّ «جند الأقصى» لها وظيفة حيوية لكلّ من التنظيمين السلفيَّين القطبين، «داعش» و«النصرة»، وهي ملء فراغ قدرتهما على استقطاب جميع الجهاديين المهاجرين، وأيضاً خوض معارك بالواسطة عبرها مع أعدائهما داخل الساحة السلفية.
والواقع أنّ موافقة «فتح الشام» على حماية «جند الأقصى» من استمرار «أحرار الشام» وحلفائها في معركة تصفيتها، لها خلفيات لافتة وتؤسّس لمرحلة جديدة بين الفصائل الاسلامية المتحالفة ضمن «جيش الفتح» في ادلب.
أولى هذه الخلفيات تتمثل في جغرافية الحرب التي حدّدتها «أحرار الشام» لحربها على «جند الاقصى»، وهي تصفية وجودها في كلّ «منطقة ادلب وريفها» كونها تمثل «امتداداً لـ«داعش»».
والواقع أنّ إشارة «أحرار الشام» إلى المساحة المطلوب إنهاء وجود «جند الأقصى» فيها، تنطوي على أهمية خاصة، كون ادلب وريفها، أصبحا بعد حصار حلب، بمثابة «المعقل الاستراتيجي» الأساس المتبقي في سوريا للمعارضة الاسلامية المسلّحة ناقصة «داعش». فأهمية هذه المنطقة أنها تتّسم بميزتين، أولها أنها نقية من وجود سيطرة أو اختراقات «داعش» فيها، وثانيها أنها لا تضمّ «نفوذاً متداخلاً» للأكراد.
وتجدر الإشارة الى أنّ «أحرار الشام» تُعتبر القوة الثانية بعد «فتح الشام» في منطقة ادلب، وقرارها في هذه اللحظة بفتح حرب على «جند الأقصى» التي تتحدث معلومات عن علاقات جوهرية تربطها بـ«فتح الشام» كما مع «داعش»، يؤشر الى ظهور مناخ جديد قد تذهب اليه العلاقة بين الفصيلين الأكبر في ادلب.
وضمن هذا السياق يلاحظ أنّ تباين الفصيلين على حماية «جند الاقصى» من عدمه، كان سبقه الشهر الماضي شقاق فقهي بينهما، حول ما إذا كان يجب القتال مع الجيش التركي ضمن «درع الفرات» ضد «داعش» والكرد في سوريا تطبيقاً لفتوى «الاستعانة».
تنظيم «احرار الشام» اعتقد أنّ «الاستعانة بالجيش الاسلامي التركي»، لقتال عدوٍّ مشترَك هو «أمرٌ جائزٌ شرعاً»، فيما رفضت «فتح الشام» ذلك، واعتبرت أنّ الاتراك هم حلفاء «لأميركا الكافرة»، و«مَن يوالي الكافر هو كافر…»، الى آخر الفتوى الشرعية…
لم ينتج عن اختلاف الفتوى بين «أحرار الشام» و»فتح الشام»، اشتباكات مسلّحة، بل فضّل الطرفان التعايش تحت سقف خلافهما على نظرتهما لعملية «درع الفرات»، ولكنّ هذا الافتراق أظهر للمرة الأولى أنهما مشروعان لجهة نوعية امتداداتهما الخارجية.
فحركة «أحرار الشام» غير المدرجة على لائحة الارهاب الاميركية، تتقاطع مع المشروع التركي في شمال سوريا، وترتّب أوضاعها الداخلية
والاقليمية لتكون وريثة «النصرة» ونسختها الجديدة «فتح الشام» التي رفضتها أميركا.
أما «فتح الشام» التي أدرجها اتفاق كيري – لافروف على لائحة الارهاب، فهي بدأت تهتمّ أكثر بإعطاء أولوية لتحالفاتها مع فصائل متهمة مثلها دولياً بالإرهاب (عدا «داعش» طبعاً)، وذلك على حساب علاقتها بفصائل مصنّفة بأنها معتدلة وموجودة معها داخل نطاق «جيش الفتح».
ورغم أنّ الفصائل الجهادية في سوريا رفضت تصنيف «فتح الشام» بأنها إرهابية، ورغم التوقعات بأن تعود اميركا بعد انهيار اتفاقها مع الروس في حلب عن قرار تصنيفها «فتح الشام» بالإرهاب، لكن مع ذلك، لا يزال أبو محمد الجولاني معنيّاً برسم تحالفاته فوق الميدان السوري ضمن معادلة تراعي انه قد يضطر في لحظة مقبلة لقتال مصنفيه بالارهاب، بواسطة تحالف يجمعه مع كلّ الفصائل الصغيرة التي وسمتها اللائحة الدولية بالارهاب.
وهذا الهدف تنازعه عليه «داعش»، وهو الذي يفسّر أيضاً من ناحية ثانية لماذا قبل الجولاني بإعادة «جند الاقصى» الى حضن حمايته في وجه «أحرار الشام».
الخلفية الثانية تأخذ تعبيراتها من واقع أنّ «جند الاقصى» كانت المسؤولة عن فتح معركة حماه تحت شعار تخفيف الضغط عن المحاصرين في حلب. ولكنّ «احرار الشام» اعتبرت أنّ وراء فتح معركة حماه محاولة من «داعش» للسيطرة بواسطة «جند الاقصى» على مساحة من ريف حماه الشرقي، لتبني عليه امارة تابعة لها يتمّ وصلها بالرقة وتعوضها خسائرها لجغرافيتها بين خطَّي اعزاز وجرابلس.
لقد انكفأت «أحرار الشام» عن القتال في حلب، بعد تطوّر تزامن فتح معركتي «درع الفرات» وريف حماه الشرقي، والتحقت بالهجوم التركي على «داعش» في جرابلس، وبذلك قدمت سياسياً أوراق اعتمادها إلى أنقرة لتبادلها الاخيرة بدعم حضورها في منطقة ادلب في مواجهة مناورات «فتح الشام» فيها عن طريق «جند الاقصى»، وفي ريف حماه الشمالي بمواجهة مناورات «داعش» فيها عبر «جند الأقصى» أيضاً.
وردّ فصيل «جند الأقصى» على محاولات «احرار الشام» محاصرة دورها الذي يقع في الوسط بين خدماته لـ«داعش» و«النصرة»، بعمليات امنية ضدها في ادلب، ما دفع «أحرار الشام» وحلفاءها لأخذ قرارها الجذري بإنهاء وجودها، الامر الذي منعته عملياً «فتح الشام» عبر عودتها لضمّ «جند الاقصى» اليها.
معركة «احرار الشام» وحلفائها في ادلب ضد «جند الاقصى»، تبرز حدة الفرز السائد داخل الطيف السلفي الجهادي المسلّح في سوريا، وذلك على اساس اتّساع شق الافتراق بين فصائل مدرَجة على اللائحة الدولية للارهاب، وفصائل موجودة خارج هذه اللائحة.
وفي مقابل وجود حرب معلنة بين هذه الفصائل الاخيرة و«داعش»، فإنّ احداث ادلب بين «جند الاقصى» و«أحرار الشام»، تؤشر الى بدء حرب باردة بين «فتح الشام» (النصرة سابقاً)، والفصائل التي لا تتضمّنها لائحة الارهاب الدولية.
وثمّة اسئلة اهمّ يستدرجها هذا التطوّر، أهمّها: هل يظلّ إطار «جيش الفتح» الذي يضمّ «فتح الشام» المصنَّفة ارهابية، وفصائل ليست على لائحة الارهاب الدولية، متّحداً وموجوداً، أم إنه يتعرض لتعديل بحيث يصبح جيشين، واحد تقوده «احرار الشام» مدعومة من تركيا ويضمّ الفصائل التي وافقتها على الاستمرار في معركة إلغاء «جند الاقصى» حتى النهاية، وآخر تقوده «جند الشام»، ويضمّ فصائل على وزن «جند الاقصى» التي اعلنتها اميركا خلال سريان هدنة لافروف – كيري في سوريا بأنها ارهابية، ومعهم أيضاً مهاجرون جهاديون رفضوا الالتحاق بـ«داعش».
والسؤال الاخر: هل يتّسع المربع الجغرافي المتبقي للمعارضة الإسلامية ناقصاً «داعش»، في ادلب وريفها، للتعايش بين مناخين أفرزتهما لائحة التصنيف الدولي داخل ساحة فصائل المعارضة الجهادية السورية بين معتدلة وإرهابية، ام أنه سيذهب للانفجار؟