لم يعد هناك نقاش كثير حول حجم ما هو متوقع من معونات عربية وغربية، وسط اجماع على القول إنّها باتت متلازمة أكثر من قبل مع الإصلاحات التي تعهّد بها لبنان. ولم تعد محصورة بالجوانب الإقتصادية والإدارية، فتجاوزتهما الى السياسية التي باتت في مرحلة توازيهما. وطالما أنّ لبنان يسير بالإصلاحات ببطء فالمساعدات ستأتي بـ «القطّارة».
بعيداً من مضمون بعض البيانات الغامضة او تلك التي لا تعترف الى اليوم بوجود الأزمة النقدية، رغم ما بلغت حدّتها في الأسواق المصرفية وتلك الموازية، وما بات يُعرف بالسوق السوداء، فانّه من الضروري الإعتراف بحجم الأزمة وتوصيفها على حقيقتها قبل معاينتها وتحديد المعالجات الناجعة التي تؤدي الى الحدّ منها، وتطويق ذيولها السلبية في المرحلة الأولى تمهيداً للخروج منها واستعادة السوق النقدية حركتها الطبيعية الهادئة في مرحلة أخرى.
على هذه الصورة، يُجري الخبراء قراءتهم للتطورات التي شهدتها البلاد. فيدعون الى عدم الأخذ بالبيانات التي تحدثت عن توفّر الدولار الأميركي نقداً بالقدر المطلوب وما تحتاج اليه سوق النقد. فكل الوقائع تنفي مثل هذا الإدّعاء وتدحضه. لكن، في الوقت عينه، لا يأخذون ايضاً بالتهويل بما هو آتٍ، ولا بالحديث عن افلاس بلد واعتباره من الدول المارقة غير القادرة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه الاطراف الدائنين. فنسبة الدين الخارجي لا تشكّل خطراً وجودياً. ذلك انّ حجم الدين الداخلي يفوق أربعة اضعاف الدين الخارجي، مع الاعتراف بما يُنبئ ببعض المخاطر التي تواجه الخزينة ومصرف لبنان.
مما لا شك فيه، انّ نصائح البنك الدولي وصندوق النقد قد حالت دون اكتتاب المصارف المحلية في السندات الجديدة المطروحة، ومنها سندات اليوروبوند التي طُرحت في نهاية الشهر الماضي. لكن توفير المؤونة لها، والتي حُدّدت بسقفها الأعلى بألفي مليار ليرة لبنانية ستتوفر من ضمن المهلة التي حدّدتها وزارة المال بالتعاون مع مصرف لبنان. فلم يسبق ان سقط لبنان في اي من الإمتحانات السابقة.
على هذه القاعدة، يتطلع الخبراء الإقتصاديون الى نتائج المساعي المبذولة باتجاه الدول الغنية، وفي مقدمها الدول الخليجية التي تعرف السوق اللبنانية، ولها خبرتها فيه، ولم تخسر يوماً دولاراً واحداً من عائدات استثماراتها في اي من المجالات والقطاعات المختلفة.
وبناءً على ما تقدّم، يتحدث أحد أعضاء الوفد اللبناني الى مؤتمر الإستثمار الإماراتي – اللبناني في ابو ظبي عن اجواء ايجابية رافقت المناقشات التي شهدها المؤتمر، رغم عدم اتخاذ اي قرارات فورية. فأبواب المناقشات مفتوحة في اجواء من التريث المحدود. لقد استمع المسؤولون الإماراتيون باهتمام بالغ الى الطروحات اللبنانية، وخصوصاً تلك التي تتحدث عن مجالات الإستثمار ومشاريع «سيدر». فتراوحت ردود الفعل بين فئتين: من هم على علم بأدق التفاصيل، وبين من دخلوا في الكثير من التفاصيل.
بالنسبة الى الفئة الأولى هم من الشركاء الاساسيين في مؤتمر «سيدر واحد» الذي عُقد في باريس في نيسان من العام الماضي، وسبق لهم أن واكبوا الورش الحكومية. اما الفئة الثانية فهم من حكمتهم هواجس مختلفة عبّروا عنها في مداولات جانبية بعفوية مطلقة، فسألوا هامسين بلباقة عن الضمانات الحافظة لحقوق المستثمرين امنياً وقضائياً وطائفياً، عندما يتصل الأمر بالمناطق التي ستُبنى فيها المشاريع المُقترح تمويلها.
على هذه الخلفيات، يبدو انّه من المبكر الحديث عن حجم المساعدة الإماراتية، في انتظار مواقف سيُعلن عنها بأشكال مختلفة بعد الاعلان عن رفع حظر السفر الى لبنان، رغم الإشارات السابقة التي أُعطيت عن هذا القرار، فبقي تنفيذه محدوداً ومحصوراً بأصحاب الحاجة الملحة لأكثر من هدف. اما ما يتصل بالودائع المالية المحتملة فبقي سراً بين رئيس الحكومة سعد الحريري وولي عهد الإمارات وكبار المسؤولين الذين التقاهم على انفراد، فبعض هذه القرارات يُبنى على تنسيق خليجي، خصوصاً بين ابو ظبي والرياض، وقد تمّ إحياء خطوط التواصل بين العاصمتين قبل زيارة الوفد اللبناني للامارات العربية المتحدة.
تزامناً، تبلّغ مسؤولون لبنانيون انّ ورش عمل بدأت في بعض المؤسسات الحكومية المكلفة ادارة استثمارات الدولة والصندوق الإئتماني، وأنّ الأسبوع المقبل سيشهد زيارات لوفود متخصصة الى بيروت لمناقشة الكثير من التفاصيل في أكثر من قطاع، ولا سيما في قطاعات الطاقة المتجددة والنفط والكهرباء وادارة المرافئ وبعض المشاريع المتصلة بالبنى التحتية. علماً أنّ هناك مشاريع يجري تنفيذها في بعض المناطق بتمويل اماراتي سابق، ولا بدّ من تقويم العمل الجاري فيها على الأرض رغم المراقبة الدورية لسفارتهم في بيروت أو عبر مكاتب متخصصة تعمل في مناطق النزوح السوري منذ بداية موجة النزوح خارج اطار المؤسسات الرسمية والدولية.
على كل حال، يبدو جلياً عند قراءة التوجّهات الإماراتية الجديدة، وبالمقارنة مع ما تبلّغ لبنان من الرياض والكويت وقطر ومؤسسات أخرى، أنه لن تكون هناك هبات أو مساعدات «غير مضبوطة»، فهي رهن بالكثير من العوامل التي على اللبنانيين التعجيل بها على كل المستويات، دون إغفال السياسي منها. فهو حاضر وليس في دفتر الشروط الدولية أيضاً. فتوضيحات الحريري من ابو ظبي وتوصيفه للوجه الإقليمي لـ»حزب الله» يشكّلان نوعاً من التطمينات التي يطالب بها الخليجيون اياً يكن شكل العلاقات القائمة بين دولهم وايران. فهم يراهنون على مواقف أكثر انسجاماً من باب «النأي بالنفس» رغم معرفتهم بالخصوصية اللبنانية.
وختاماً، ورغم كل هذ النقاش هناك ثابتة وحيدة تربط بين آلية المساعدات والهبات والقروض المختلفة، فهي لن تكون أسرع من الإصلاحات الموعودة، وهما يسيران معاً وفق خطوات متشابهة. فالقرار بالهبات المجانية غير متوافر لا في الخليج ولا لدى الدول المانحة، ويقف الأمر في النتيجة على خروج اللبنانيين بخطى الإصلاحات بطريقة تُستخدم فيها «القطّارة» لتأتي االمساعدات بمثلها، فلا يقع لبنان ولا تذهب الهبات دون جدوى.