أخطر ما يعتقده المراقبون انّ أحداث عين الحلوة الدموية حَوّلته «حقل مناورة» يختصر الصراع الفلسطيني – الفلسطيني في شكله وتوقيته ومضمونه. والأدهى اذا قيل انّ السلاح المستخدم فيها وُجِد ليكون في مواجهة اسرائيل، فإنه لم يصب به او يتضرر منه احد من مواطنيها، ولذلك تقدمت الدولة العبرية لائحة «المستفيد الأول» مما يجري. وعليه، طرح السؤال هل تحوّل المخيم جزءاً من «قطاع غزة»؟ وهل بات محيطه شبيهاً بـ»غلافها»؟
تراجعت حدة المناقشات التي تناولت ما يجري في أزقة مخيم عين الحلوة وزواريبه الضيقة منذ اندلاع جولاتها الأولى الجديدة في الأسبوع الأخير من تموز الماضي وخصوصا لجهة الدوافع التي قادت اليها، وما رسم لها من اهداف اعلامية قبل ان تكون عسكرية او أمنية قياساً على حجم وعدد المنظمات والمجموعات الصغيرة التي شاركت فيها وباتت تشكّل طرفاً فيها على وقع النتائج الدموية التي ادت اليها ومقتل العديد من القادة العسكريين الفلسطينيين والمدنيين بمن فيهم من اللبنانيين الذين دفعوا ثمن وجودهم في مناطق قريبة من مسرحها.
فمجرد التذكير بأن العمليات العسكرية قد انطلقت بالتزامن مع المساعي التي بذلت بين انقرة والقاهرة وعشية انعقاد مؤتمر الأمناء العامّين للفصائل الفلسطينية، توضحت الأهداف التي رَمت إليها ودلّت بطريقة غير مباشرة الى من خَطّط ودعا إليها وأدارها في الأمن والسياسة والاعلام. فالمؤتمر المستهدف كان قد حمل للمرة الأولى شعار المصالحة الفلسطينية الشاملة، وهو الذي عقد في 29 تموز الماضي في «مدينة العلمين» المصرية. ومهّدت له سلسلة اجتماعات تحضيرية شارك فيها قادة من السلطة الفلسطينية وفتح و»حركة حماس» في انقرة. ولذلك، فقد قاطعته المنظمات المنخرطة في «محور الممانعة» وشارك فيه ممثلون عن 11 فصيلاً آخر، بالإضافة إلى رئاسة المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتَوّجَه حضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقادة حركة حماس من اجل مناقشة «الأوضاع الداخلية الفلسطينية، وسبل إنهاء الانقسام».
ولمن فاتته الذاكرة فهو المؤتمر الذي سعى منظموه وداعموه الى «المصالحة الشاملة» بين السلطة الفلسطينية والفصائل التي تجمعها تتقدمهم منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح، وتلك التي وافقت على الحوار معها لتوحيد القوى في مواجهة ما يستهدف الساحة الفلسطينية في الداخل، سواء في غزة او في الضفة الغربية كما في دول الشتات بعدما تقدّم موقع الملف الفلسطيني على طاولة مجموعة من المؤتمرات التي عقدت تحت شعار «السلام الشامل» في المنطقة وصولاً الى برامج التطبيع مع اسرائيل التي أنجزت بموجب الإتفاقيات الابراهيمية مع مجموعة من دول الخليج العربي وما هو متوقّع منها على الطريق مع باقي دولها.
وعليه، لم يكن صعباً على ايّ من المواكبين لبعض التفاصيل ان يفهم هذه المعادلة التي عبّرت عنها الاشتباكات المتنقلة التي دارت بين عناصر وحدات الأمن الوطني الفلسطيني المشتركة التي تتولى أمن المخيم بالتعاون والتنسيق مع السلطات اللبنانية العسكرية والامنية ومجموعات مسلحة مُشتتة تتبادل السيطرة على شارع او شارعين على ابواب المخيم وفي داخله، وجعلت منها امارات صغيرة تضم أبنية عدة يتحكمون بأمن قاطنيها بواسطة عدد قليل من المسلحين الذين يمكن ان يبدلوا من أسمائهم وولاءاتهم كلما تبنّتهم دولة أو أي جهاز استخباري او اي فريق لبناني أو فلسطيني، قياساً على حجم المهمة التي أوكلت اليهم من قبل من قرّر ان يسلّحهم ويُموّلهم ويديرهم ليشغّلهم وفق أجندات فلسطينية داخلية أو خارجية، عربية، اقليمية او دولية الى أن باتوا قادرين على التحكّم بأمن المخيم والمناطق السكنية اللبنانية المحيطة به بطريقة هَدّدت سلامة قاطنيها بعدما أدّت اعتداءاتهم الى شل الحركة في مؤسسات حكومية، رسمية جامعية، تربوية، صناعية وتجارية وأقفلت الطرق الدولية الى الجنوب، بالإضافة الى اغتيال وجرح عدد من العسكريين اللبنانيين من جيش وقوى امن واأمن عام من المكلفين بأمن المخيم ومحيطه والمنشآت المحيطة به.
وما يثير الاستغراب في ما يحصل انّ مثل هذه المجموعات التي تسلمت في الفترة الاخيرة اسلحة نوعية وذخائر مختلفة من مصادر لبنانية داخلية، باتت في مواجهة دائمة مع حركة فتح والأمن الوطني الفلسطيني، ليس لسبب سوى انهم يمثلون السلطة الفلسطينية بصورة شرعية اعترفت بها دول عربية وغربية منذ تشكيل السلطة في أعقاب «مؤتمر اوسلو» قبل ثلاثين عاما تقريبا. وقد شكلت بدعم داخلي وخارجي متعدد الوجوه تسليحا وتمويلا وتبنيا لشعارات سياسية ودينية مأوى لعدد كبير من الارهابيين الفارّين من وجه العدالة، وسبق لهم ان قاموا بعمليات اغتيال مختلفة بما فيها المشاركة في عمليات عسكرية ضد الجيش اللبناني واغتيال مسؤولين لبنانيين وفلسطينيين في مراحل متعددة امتدّت حتى الأحداث الاخيرة التي وقعت في المخيم او خارجه طيلة الأسابيع الستة الماضية وما قبلها بفترات متفاوتة، يمكن ان تعود سنوات عدة الى الوراء الى لحظة اغتيال القضاة الاربعة فوق قوس المحكمة في صيدا في حزيران من العام 1999.
وبناء على ما تقدّم تعترف المراجع الأمنية انه لم يعد مقبولاً ان يتحول المخيم كبقعة فلسطينية ومحيطه السكني من مختلف الجهات الى رهينة بيد هذه المجموعات التي لا يزيد عددها على عشرات من المطلوبين والمشردين العاطلين عن العمل ممّن تبنوا شعارات غريبة عجيبة عن المجتمع المحيط بهم، وخصوصاً تلك التي عجزت عن تحقيقها جيوش عربية كبرى من اجل ان تكون شوكة في خاصرة الأمنَين اللبناني والفلسطيني، فيما لم يتوجه أحد منهم برصاصة واحدة ضد اسرائيلي بعدما تعددت أسماء ضحاياه من الفلسطينيين واللبنانيين من مستويات مختلفة.
والأخطر في نظر المراجع الامنية أنهم باتوا مكلفين مؤخراً باستهداف رموز السلطة الفلسطينية التي تعاقدت مع الدولة اللبنانية على مجموعة من الإجراءات المؤدية الى حماية الفلسطينيين واللبنانيين وفرض الامن في المنطقة كاملة. وكذلك فإنهم كلّفوا باذكاء الخلافات ضمن الساحة الفلسطينية كلما لاحت في الافق مشاريع المصالحة الشاملة عدا عن تحويلهم للمخيم الى كونه جزءاً من «قطاع غزة» حيث تمكّنت بعض الفصائل الفلسطينية من فصلها عن مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية والمناطق المحيطة بها، وتحولت وحدات مسلحة تقودها دول اخرى تتناحر على الساحة الفلسطينية بطريقة أضعفت مقومات صمودها وأنهت بعضاً من مشاريع اقامة «السلطة الوطنية» على الطريق الذي رسم من اجل اقامة «الدولة الفلسطينية» في مرحلة من المراحل التي باتت بعيدة كل البعد عن المنال لصالح قوى ومجموعات تفتك بشعوبها في منطقة محاصرة من الجهات السِت ارضاً وفضاء وبحراً.
وقياساً على ما تقدم، من هذه المؤشرات والمعطيات تبرز الحرب الإعلامية والنفسية التي تتقنها المجموعات الفلسطينية المناهضة للسلطة وقد نجحت في شن حرب اعلامية قالت فيها انها حققت اهدافها في الساعات القليلة الماضية بوضع اليد على مواقع لـ»الامن الوطني» و»فتح» في المخيم، بينما العكس هو صحيح ويترجم بتسليم فتح السلطات اللبنانية بعض المسلحين الموقوفين لديها وبسيطرتها على مبنى أو مبنيين في بعض المحاور التي إن سمع بأسمائها يعتقد البعض أنها تمتد على مساحة «صحراء سيناء» أو انها شبيهة بـ»خط بارليف»، فيما المحور يمتد من بناية الى اخرى ومن شارع الى آخر اذا كان محوراً كبيراً.