صراع الحياة وما بعد الوفاة بين الأسد وعرفات (3 من 4)
شكّلت انتفاضة 6 شباط 1984 التي قادتها حركة «أمل» في بيروت الغربية ضد الجيش اللبناني محطة مفصلية في مسار التطوّرات اللبنانية والفلسطينية. هذه الإنتفاضة جاءت بعد خمسة أشهر على حرب الجبل بين «القوات اللبنانية» و»الحزب التقدمي الإشتراكي» المدعوم من النظام السوري والقوات الفلسطينية الموالية له، وبعد الإنسحاب الإسرائيلي الأول إلى جنوب نهر الأولي. هذا التطوّر كشف وضع المخيّمات الفلسطينية في بيروت وأظهر الخوف السوري من استعادة عرفات السيطرة عليها.
في محاولة أولى لتطويق هذا الخوف شنّت حركة «أمل» هجوماً على بقايا تنظيم «المرابطون»، ذي الطابع السني، في أيار 1985 وانتهت العملية بتسليم سلاح التنظيم وبقاء قائده ابراهيم قليلات خارج لبنان في منفاه القسري الذي لم يعد منه بعد. ولكن بعد أيام على تلك المعركة بدأت حرب المخيمات الأولى في بيروت وحاصرت الحركة مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة.
حرب المخيّمات
خلال أقل من عام استطاع الفلسطينيون الموالون لعرفات العودة إلى تلك المخيمات وأعادوا تسليحها واتّخذوا مراكز متفرّقة سرية في شقق سكنية في بيروت الغربية. من أبرز الأسماء التي عادت، سلطان أبو العينين وكمال مدحت اللذان سيكون لهما دور كبير في إعادة نفوذ عرفات إلى المخيمات وتسليحها. وهما كانا غادرا بيروت مع أبو عمار وعادا مع غيرهما بطريقة سرية. ويُقال، من دون تأكيد، إنّهما عادا عن طريق مرفأ جونيه عبر الخط البحري الذي كان يربطه بقبرص وتسيّره «القوات اللبنانية» التي كانت انتقلت إلى إمرة سمير جعجع وإيلي حبيقة بعد انتفاضة 12 آذار 1985 ثم انتفاضة 15 كانون الثاني 1986. تلك المرحلة شهدت ظهور ياسر عرفات على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال التي أطلقتها «القوات اللبنانية» التي كانت أيضاً تعيد ربط علاقاتها مع عرفات والرئيس العراقي صدام حسين المتخاصمين مع النظام السوري وكان يتولّى هذه المسؤولية كريم بقرادوني.
لم تكن عملية السيطرة على صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة مهمّة سهلة. غرقت «أمل» في أوحال هذه الحرب التي شاركت فيها وحدات من الجيش اللبناني الخاضعة لإمرتها، بينما كان «حزب الله» منصرفاً إلى تقوية تنظيمه وإلى عملياته ضد المصالح الأميركية وخطف الرهائن الأجانب. الصراع بين المحاور وضع نبيه بري وكلاً من وليد جنبلاط وجورج حاوي في مواجهة مفتوحة. في تشرين الثاني 1985 اندلعت «حرب العلمين» بين «الحزب التقدمي الإشتراكي» و»أمل» بعد اتهام الإشتراكي بأنه يعمل على فكّ الحصار عن المخيمات وإعادة وصلها بالشارع البيروتي. هذه المرحلة كانت شهدت تطوّراً بارزاً جديداً بعد الانسحاب الإسرائيلي من منطقة صيدا حتى صور وبقائه في جزين حيث أصبح مخيم عين الحلوة مستعدّاً للقتال إلى جانب مخيمات بيروت مستفيداً من الحدود المفتوحة مع مدينة صيدا.
عودة الجيش السوري إلى بيروت
في ظلّ عجز «أمل» عن الحسم لم تتوقّف الحروب السورية المباشرة. في أيلول 1985 شنّ النظام السوري حرباً جديدة ضدّ طرابلس بواسطة تنظيمات لبنانية وفلسطينية موالية له، وأنهى سيطرة «حركة التوحيد الإسلامي» ومتفرّعاتها على المدينة، قبل أن يستتبع هذه الجولة بجولة ثانية في كانون الأول 1986 دخل بعدها جيشه إليها. وكما عاد إلى طرابلس كان يخطط للعودة إلى بيروت. مواجهات طرابلس انتهت بتدخّل إيراني لحماية رئيس «التوحيد» الشيخ سعيد شعبان.
في 15 شباط 1987 اندلعت جولة قتال عنيف في بيروت بين «الحزب التقدمي الإشتراكي» و»الحزب الشيوعي» من جهة، وبين «حركة أمل» وكاد الحزبان يسيطران على العاصمة ويفكّان الحصار عن المخيمات. ولكنّ تدخّلاً سورياً مباشراً حال دون ذلك، وكان من نتيجته قرار عودة الجيش السوري إلى بيروت في 27 شباط.
كان سلطان أبو العينين يقيم في شقة في بيروت واستطاع أن ينجو من الاعتقال. تمركز الجيش السوري في محيط المخيمات الثلاثة وانتهى حصارها بتسليم الأمن فيها إلى القوى الفلسطينية المؤيّدة للنظام السوري، ولكن من دون تغيير ولاء أكثرية الفلسطينيين لعرفات.
عين الحلوة يواجه
ما حصل في بيروت لم يطبّق في الجنوب. استطاعت القوات الفلسطينية في مخيّم الرشيدية جنوب صور أن تصمد، وتمكّنت تلك الموجودة في مخيّم عين الحلوة من كسر حصار «أمل» والخروج من المخيم إلى مناطق شرق صيدا والتمدّد جنوباً باتجاه بلدة مغدوشة وصولاً إلى بلدات جنوبية أخرى. نتيجة ذلك تدخّل «حزب الله» ليشكّل قوات فصل بين الحركة والقوى المؤيّدة لعرفات بعدما وقف يتفرّج على استنزاف قوة «أمل» ليبني على أنقاضها قوّته. لاحقاً عندما اندلعت الحرب بين «أمل» و»حزب الله» في الجنوب وإقليم التفاح سيؤدي الفلسطينيون دوراً في الفصل بينهما، قبل أن يحسم الحزب المعركة لصالحه عام 1990 ويكرّس تفاهم طهران ودمشق دوره كتنظيم مسلّح وحيد مكلّف بالاحتفاظ بسلاحه خارج ما نصّ عليه «اتفاق الطائف»، وبتنفيذ العمليات ضد إسرائيل.
الجيش يحاصر عين الحلوة
«اتفاق الطائف» الذي كان نتيجة حرب التحرير التي أعلنها رئيس الحكومة العسكرية ميشال عون ضدّ الجيش السوري في لبنان انتهى بعد حرب الإلغاء التي شنّها ضد «القوات اللبنانية» بدخول الجيش السوري إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع، وإلى تكريس السيطرة السورية على لبنان. كان عون حصل على تأييد كل من النظام العراقي وأبو عمار في حرب التحرير ولكنّه أهمل نصائح صدام حسين ورسائل عرفات بضرورة الموافقة على «الطائف». كانت علاقة العراق وعرفات جيّدة أيضاً مع «القوات اللبنانية» وحاول موفدون من أبو عمار، من بينهم كمال مدحت، وزيد وهبة، التوسّط بين «القوات» وعون ولكن من دون أن يلقوا قبولاً عند عون الذي كان مصرّاً على البقاء في قصر بعبدا مهما كان الثمن.
عملية 13 تشرين الأول 1990 التي أخرجت عون من بعبدا عجّلت محاولة تطويق نفوذ عرفات في المخيمات الجنوبية بواسطة سلطة الوصاية التي كانت ممثّلة بالرئيس الياس الهراوي وقائد الجيش العماد إميل لحود. أول القرارات الأمنية كان طرد المسلحين الفلسطينيين من مناطق شرق صيدا. في أول تموز 1991 نُفِّذ القرار وبعد مواجهات محدودة مع الجيش اللبناني عادوا إلى داخل مخيم عين الحلوة. ولكنّهم احتفظوا بسلاحهم ولم يتمّ تنفيذ الاتفاق على تسليم الأسلحة الثقيلة.
حصل كل ذلك بينما كان ياسر عرفات يدير مفاوضات سرية مع الإسرائيليين في أوسلو للتوصّل إلى اتفاقية سلام. في 13 أيلول 1993 تمّ توقيع هذا الاتفاق. اعترض «حزب الله» عليه وعلى مبدأ السلام، وتظاهر المؤيّدون له في يوم التوقيع عند جسر المطار، وحصلت مواجهة مع الجيش اللبناني سقط بنتيجتها 13 قتيلاً بين المتظاهرين من دون تحديد المسؤوليات بعد ذلك. كانت تلك الحادثة محطة في مسار الخلاف الكبير بين النظام السوري وبين «حزب الله» من جهة وبين عرفات.
ولادة «حماس» و»الجهاد»
لم يكن «حزب الله» وحده المعارض لتوجّه عرفات السلمي. صحيح أنّ عرفات أدار بنجاح الانتفاضة الفلسطينية في الداخل عام 1987 بينما كان يتمّ التحضير للمفاوضات السرية، ولكن هذه المرحلة شهدت أيضاً الإعلان عن تأسيس «حركة حماس» و»حركة الجهاد الإسلامي» في ما بدا أنّه خطّ آخر من خطوط خلق تنظيمات فلسطينية جديدة خارج إطار «منظمة التحرير»، وحتى خارج إطار القوى المؤيّدة للنظام السوري. ولكن بقيت العلاقات بين هذه التنظيمات وبين «حزب الله» والنظام السوري ملتبسة بسبب التوجّهات الإسلامية الأصولية التي تحرّكها. عندما أبعدت إسرائيل 417 متشدّداً من هذه التنظيمات إلى مرج الزهور في البقاع الغربي، في 17 كانون الأول 1992 حاول «حزب الله» أن يقدّم لهم مساعدات ولكنّهم رفضوا بسبب موقفهم الديني المتشدّد من «الحزب الشيعي».
عودة عرفات إلى فلسطين
الثالثة بعد ظهر الأول من تموز 1994، عاد ياسر عرفات إلى فلسطين وعبر من مصر إلى قطاع غزة حيث قبّل الأرض وأدّى الصلاة بعد 27 عاماً على احتلال إسرائيل القطاع، وكانت عيون الملايين في العالم تتابع مشاهد عودته، التي وقف ضدها النظام السوري وإيران و»حزب الله». في مشهد وازى مشهد زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس في 19 تشرين الثاني 1977.
توجّه عرفات فور وصوله إلى قطاع غزة، إلى ساحة الجندي المجهول في مدينة غزة، حيث احتشد عشرات الآلاف لاستقباله، قبل أن ينتقل إلى مخيم جباليا الذي انطلقت منه الانتفاضة، وقال هناك: «لنتحدث بصراحة، قد لا تكون هذه الإتفاقية ملبّية لتطلّعات البعض منكم، ولكنّها كانت أفضل ما أمكننا الحصول عليه من تسوية في ظلّ الظروف الدولية والعربية الراهنة». وفي الثالث من تموز، انتقل عرفات من غزّة إلى أريحا في الضفة الغربية، على متن مروحية، وخرج الفلسطينيون لاستقباله بحماسة أعادت إلى الأذهان مشاهد استقباله في قطاع غزة، وهتف عرفات مطوّلاً مع أبناء شعبه بـ»الروح بالدم نفديك يا فلسطين».
الدولة الفلسطينية لا تلغي المخيّمات
في المقرّ الجديد لـ»السلطة الوطنية الفلسطينية» في مدينة أريحا، أدّت الحكومة الأولى اليمين الدستورية، وردّد عرفات، ومن ورائه 12 وزيراً، «أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً لوطني، ولقيمه المقدسة ولترابه الوطني، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أعمل لمصلحة الشعب الفلسطيني، وأن أقوم بواجبي بإخلاص. والله شاهد على ذلك». ومن مقرّه في «المنتدى» غرب مدينة غزّة، بدأ عرفات معركة بناء السلطة الوطنية الفلسطينية وإقامة مؤسّساتها، كان مكتبه شبيهاً بذلك الذي تركه في تونس، قاعة اجتماعات، ومكاتب، وغرفة ليقضي فيها قيلولته.
لقد اختار ياسر عرفات العودة وهو مدرك أنّه لن يكون تابعاً لأي كان، وحافظ على القرار الوطني المستقلّ حتى وفاته بظروف ملتبسة وغامضة في 11 تشرين الثاني 2004، بعد أن رسّخ نهجاً ثورياً صلباً، وعقب حصار إسرائيلي لمقرّ الرئاسة، جاء ردّاً على مواقفه.
بناء السلطة الوطنية الفسطينية داخل فلسطين لم يضع حداً لسلطة «منظمة التحرير» في الشتات وخصوصاً في لبنان. كان من الطبيعي أن يستعين عرفات بكوادر كثيرة سُمِح لها بالعودة إلى أرض الوطن الجديد ومن بينها قيادات وكوادر من مخيّم عين الحلوة. ولكنّ الحرب استمرّت عليه من النظام السوري و»حزب الله»، بعدما تعثرت مفاوضات السلام بين نظام الأسد وإسرائيل برعاية واشنطن، ومن إسرائيل، وكان مخيّم عين الحلوة ساحة لهذه المواجهات التي لم تنتهِ بعد.
الحلقة الرابعة:
«عين الحلوة» إغتيالات وحروب عبثية