عبرت الايام الخمسة من أحداث مخيم عين الحلوة ولم تفلح الهيئات المحلية اللبنانية والفلسطينية في وضع حد لها على رغم من إظهار معظم القوى المسلحة استعدادها لتثبيت وقف النار، إلّا انّ ذلك لم يتحقق. وهو ما يوحي بأن قرار إشعالها كان خارجياً بأياد داخلية تحمل أسماء مختلفة. ولذلك، سيبقى وقف النار الناجز مهمة هذا الخارج سواء كان في رام الله او في أي عاصمة اخرى؟ وعليه، ما الذي يؤدي الى هذه الخلاصة؟
وإن تحسّن الوضع الامني وتراجعت حدة الاشتباكات على مختلف المحاور المتقابلة على مساحة ضيقة من مخيم عين الحلوة، فإنّ الجمر ما زال تحت الرماد ما لم تنجح الاتصالات الخارجية في وأد العملية وترتيب المخارج التي تضمن انتصارات متكافئة للمتقاتلين لضمان وقفٍ ثابت للنار. فبعض الأطراف المتقاتلة علّقت معاركها منذ اكثر من اربع سنوات ولم تتحقق الاهداف التي رسمت لها لدى الطرفين بعدما تنوّعت المواجهة هذه المرة وجَمعت في صف واحد بعض من تناحروا من قبل، في اشارة الى غياب حركة «حماس» عن خط المواجهة مع السلطة في عين الحولة ومناطق السلطة لِتَميّزها منذ فترة غير قصيرة عن حركة «الجهاد الإسلامي» منذ احداث غزة الاخيرة حيث خاضت الاخيرة المواجهة بمفردها مع اسرائيل.
على هذه الخلفيات، تعترف المراجع الفلسطينية واللبنانية بأن أكبر مخيمات لبنان يشكل صورة مصغّرة عن الواقع الفلسطيني المعيوش في مناطق الضفة الغربية وأريحا وقطاع غزة، الذي خرج عن سيطرتها الامنية وبقيَ اداريا وماليا تابعا لها من اجل توفير مقومات عمل المؤسسات الادارية التي تموّلها السلطة الفلسطينية مباشرة، او تلك التي تعيش على نفقة المؤسسات الاممية، وتلك التي تقدمها بعض الدول الخليجية التي تُغدق مساعداتها بنَحوٍ شبه مُنتظم عدا عن عمليات تمويل اعادة البناء بعد كل عملية عسكرية اسرائيلية تشهدها تلك المناطق، خصوصا في قطاع غزة.
وانطلاقاً من هذه المعايير الجيوسياسية والامنية، فقد شكلت المواجهات التي عاشها مخيم عين الحلوة نسخة مصغّرة طبق الأصل عن النزاع الفلسطيني القائم في الضفة والقطاع. فالمنظمات التي تواجه منظمة التحرير الفلسطينية، وتحديداً حركة» فتح» ومن خلفها السلطة الفلسطينية التي ولدت من رحمها، تعيش في عين الحلوة ولو بأسماء مختلفة تتبدّل بين وقت وآخر لدواع اعلامية ومخابراتية وربما ربطاً بحدثٍ امني ما، فاكتسَبت رمزيتها على أنها جميعها تلتقي على العداء لحركة «فتح» و«السلطة» معاً، وتحديداً لبعض رموزها العسكرية والامنية. وهي تسيطر على شوارع وأزقة منه، وتعتاش على المساعدات الخارجية التي تصلها بطريقة مباشرة او غير مباشرة او تلك التي ترعاها دول محور الممانعة، بعدما نجحت في استقطاب منظمات كبرى باتت لها مقوماتها في قطاع غزة على حساب أجهزة ومؤسسات السلطة الفلسطينية لا سيما منها الامنية والعسكرية. فهي نجحت منذ سنوات عدة بإبعادها عنها قسراً من خلال عمليات عسكرية نفذت منذ سنوات قليلة أفضَت الى السيطرة المزدوجة لـ»حماس» و»الجهاد الإسلامي» ومنظمات أقل حجماً وقوة منها وهي تعيش في فلكها، وهي موجودة ايضاً في بعض مدن الضفة وقراها، ولو بنسبة أقل.
عند هذه الخريطة الفُسيفسائية لمواقع النفوذ في المخيم تبدأ القراءات الامنية لكل ما حصل فيه. وهي وإن اختلفت الروايات في تقديم سببٍ على آخر فيما حصل، فإنها تلتقي على قراءة الخريطة السياسية للنزاع الفلسطيني الداخلي لتلك التي أظهَرها مؤتمر «مدينة العلمين» على مستوى الأمناء العامّين للفصائل الفلسطينية من أركان السلطة ومعارضيها، والذي رعته القيادة المصرية بالشراكة التي لم تعد خافية على أحد مع القيادة التركية. وهي بمجملها ربطت بين احداث المخيم وما حققته الوساطة المصرية – التركية على اعلى المستويات، والتي أثمرت سعياً لتحقيق المصالحة الفلسطينية البينية الشاملة.
وقالت هذه القراءة انّ الاتفاقات التي تم التوصّل اليها، وجدت طريقها الى التنفيذ بسرعة غير منتظرة لدى معارضيها في توقيتها وشكلها ومضمونها لمجرد أن توزّعت الاجتماعات التحضيرية لـ«مؤتمر الامناء العامّين» التاريخي ـ كما وصفه طرفا النزاع – ما بين 26 و30 تموز الماضي، على مستوى القادة الفلسطينيين الكبار بين أنقرة والقاهرة، لا سيما اللقاء الذي جمع الرئيس محمود عباس ومعه مسؤولي السلطة الكبار ومن حركة «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة مع وفدٍ مِن قيادة حركة «حماس» يتقدّمه رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية في 26 تموز، والذي خصّص للبحث في اوراق العمل المؤدية الى ما سُمّي «سبل تهيئة الأجواء للمصالحة بين الطرفين» بما يقود الى اعادة الوحدة التي خصص لها اجتماع القاهرة في 29 و30 تمّوز الماضي.
وعلى هامش هذه اللقاءات وما انتشر من معلومات تتحدث عن احتمال تحقيق خطوات لا سابق لها على مستوى العلاقات بين المنظمات الفلسطينية، بدأت السيناريوهات التي تحاكي تفجيراً أمنياً في مخيمات لبنان تنتشر كالنار في الهشيم قبل إطلاق الشرارة الأولى في اكبر مخيمات لبنان في عين الحلوة نهاية الأسبوع الماضي باغتيال احد اقطاب المخيم بسبب خلافات شخصية سابقة، فكان الامر كفيلاً لِرسم السيناريو التالي له الذي تُرجم باغتيال اكبر مسؤولي الأمن الفلسطيني في المخيم اللواء ابو اشرف العرموشي، الذي كان كافياً لاشتعال المواجهات بمختلف أنواع الأسلحة المتوافرة لدى الطرفين، والتي امتدت لأيام عدة.
وعند بلوغ هذه المرحلة، تحدثت مراجع فلسطينية سياسية وامنية عن مخطط كان يدبّر للمخيم يُحاكي النزاع الذي تواجهه حركة «فتح» ومن خلفها السلطة الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة. وقالت إنه كان يمكن تطويق ما انتهت إليه محاولة اغتيال «أبو قتادة» بسهولة. فمنفّذ العملية تم تسليمه الى الامن الفلسطيني، وفيما كان العرموشي يستعد لتسليمه للدولة اللبنانية تعرّض لمحاولة اغتيال قضَت عليه وعلى مرافقيه الأربعة في توقيتٍ تزامَنَ مع مسلسل الهجمات التي تعرضت لها مواقع «فتح» في المخيم بطريقة منتظمة. وكأنّ المكمن كان بمثابة ساعة الصفر للانقلاب على أمن المخيم، في رسالةٍ واضحة الى السلطة الفلسطينية التي تصرّ على إبقاء المبادرة بأيديها إنفاذاً لتعهدات قُطِعت للسلطة اللبنانية بضبط الوضع داخل جميع المخيمات بطريقة لا تهدد أمن جيرانها أينما وجدوا.
وبالإضافة الى هذه الرواية، تحدث المسؤولون الفلسطينيون في قراءتهم لعجز القيادات اللبنانية الحزبية والحكومية عن ترتيب وقفٍ نهائي وثابت لإطلاق النار، فَردّته الى دخول مجموعات مسلحة غريبة عن المخيم تعدّ بالعشرات التحقت بمواقع الاسلاميين المتطرفين الذين يناهضون السلطة، وهو ما اثبتته الوقائع الأمنية وسقوط قتلى وجرحى منهم لم يتعرف اليهم احد من ابناء المخيم. ولذلك ظهر أنّ قرار وقف النار ليس في لبنان، وإن كان جزء منه ما بين بيروت ورام الله، فالجزء الآخر ليس في لبنان وقد يكون في غزة او في أي عاصمة من عواصم دول المُمانعة التي قاطعت مؤتمر القاهرة وربطت مشاركتها بشروط تعجيزية يؤدي إحداها إلى أن «تحلّ السلطة الفلسطينية نفسها بنفسها» لمجرّد تلبية مطلبها بِالتنَكّر لاتفاقية أوسلو، الذي انتهى بإنشائها ومعها مختلف التفاهمات الامنية الاخرى مع اسرائيل التي أدت الى قيامة مشروع الدولة الفلسطينية في الضفة وأريحا وقطاع غزة.